المنزل العاشر السماع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين
وصلى الله على محمد وال محمد
قال الله عز وجل : (( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم )) سورة الانفال الاية 23
قال الشيخ الانصار: نكتة السمع حقيقة الانتباه، مفهوم السماع العرفاني يختلف عن السماع الفقهي، في الفقه الاسلامي لدينا السماع والأستماع بالنسبة لموضوع الطرب واستعمال الأت الموسيقى، فهناك من يغني وهناك مستمع للاغاني، الفقهاء يقولون استماع الاغاني محرم، لكن الاستماع غير محرم، لانهم يفرقون بين الاستماع والسماع.
فالسماع : يعني لو أن شخصا مر مرور الكرام كما ورد في الاية الكريمة (( اذا مروا باللغو مروا كراما )) سورة المطففين الاية 30، فما يعنيه مرور الكرام عدم الاضغاء والتوقف عند هذا الغناء، لما يحمله هذا الغناء من أقوال محرم واستعمال ادوات طرب محرمة، ويصبح الحرام مرتبط بهذا السماع.
لكن الاستماع يعني عدم الاضغاء والتوقف عند هذا اللغو والغناء، يعني الشخص يمر بشكل مفاجيء، وهذه تقريبا الرؤية الفهية للسماع، أما الاستماع العرفاني يمثل وجه واحد وليس فيه وجهان، فقد قال الله تعالى (( لو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون)) سورة الأنفال الأية 23.
فالسمع مرتبط بألة السماع وهي الأذن التي يستمع بها الانسان الاصوات، لكن ما يميز الانسان أنه يمتلك اذنين، أذن في رأسه وأذن في قلبه، فالمقصود من عند العرفاء من السمع أذن القلب لا أذن الرأس، فلأية الكريمة في قوله ((لوعلم الله فيهم خيرا لأسمعهم )) فهنا السماع المقصود فيه أن الله عز وجل جعل في قلوب المخاطبين فهما في قلوبهم، لكن هؤلاء الموصوفون في الاية الكريمة ممن لا يتوقع منهم الخير، فهم من أهل النفاق والكفر والفسق وقلوبهم قاسية من كثرت الذنوب والمعاصي، فلا ينفع معهم المواعض والارشادات.
أذا بالنسبة الى أهل السير والسلوك والعرفان هؤلا ءحيث أنهم من أهل الجهاد مع النفس الأمارة، فهم يخالفون كل الرذائل النفسية كونهم منأهل التهذيب والاخلاق، مما يجعل في هؤلاء القابلية لاستماع الكلمات التي تنفعهم من حيث المفهوم والمعنى ، وتشتاق قلوبهم لمثل هذا الأستماع.
السؤال المهم هنا: كيف وبأي كلام يستمعون، فتارة هذا الكلام يمثل القرأن الكريم أو الأحاديث القدسية، وقد يكون الكلام من الأحاديث النبوية أو روايات أهل البيت عليهم السلام.
فلو تكلم شخص بأحاديث أهل البيت عليهم السلام ، فأن الجالس المستمع لهذا الكلام يعد من السماع، لأنه يفتح القلب لمثل هذه المواعض والارشادات.
اذا السماع العرفاني: أن يستمع السالك ويفتح قلبه ويتنور بكلام الله وكلام أهل البيت، أو حتى لو كان الكلام من الأشعار والأبيات، كأن يفتح السالك ديوان أبن الفارض ويقرأ شعر بن الفارض بطريقة لطيفة تؤثر على حالة السالك، لأن هذا السماع يفتح القلب ويحرك مشاعر العشق والشوق الالهي ويولد فرحة عرفانية.
هذا السماع الذي يلازمه أنتباه قلبي لدى هذا السالك، فيكون المستمع في حالة انتباه ويقظة قلبية وروحية، بحيث يكون تأثير هذا الأستماع النشاط والحيوية، ولهذا نشاهد في مجالس العرفاء عندما يستمعون للشعر العرفاني كأمثال اشعار حافظ الشيرازي أو شعر لشعراء أخرين أو أي كلام الهي، تأخذهم الغشية والغشوة الربانية، مما يحرك اعضاءهم وجوارحهم، لا نقول أنهم يرقصون ويطربون كما يحدث في مجالس اللهو، لكن نقول هناك ما يعرف بالرقص العرفاني.
لأن هذا السالك عند السماع تنتشي روحه فتتحرك كل اعضائه وحواسه الظاهرية والباطنية، أذا فالسماع العرفاني سماع مجرب ويعتقد به العارف ويحصل لمن هم من أهل العشق الالهي ، ولا يكون هذا السماع بمحرم.
اما أذا تم استعمال الالات الطرب والفسق، كما يقوم بها بعض الدراويش فأنهذه تعد بدعة ولا تلتقي بالسماع العرفاني المشروع الصحيح.
الشيخ الأنصاري في هذا المنزل يعبر عن حقيقة السماع بالنكتة العرفانية، فكلمة النكتة تعني سر من أسرار العرفان، والشيخ الأنصاريلا يتستخدم كلمة النكتة في أي منزل أخر من المنازل في كتابه، أنما استعملها فقط في باب أو منزل السماع، ولعل هذا السماع سر من الأسرار لا يفهمه الا قليل، لأن السماع حقيقة الأنتباه، فإذا أردت أن تفهم وتعرف السماع بمره وحدوده وثغوره فلا بد أن تحصل على هذه النكتة القلبية الخفية.
بمعنى أن قلبك يكون حاضرفي هذا البحر من المعاني وفي أعلى درجات الانتباه واليقظة العرفاني، كي تحصل على نشاط عرفاني وسرور وبهجة عرفانية وسيعة.
ثم يقول الشيخ الأنصاري: أن السماع على ثلاث درجات:
ـ سمع العامة ثلاثة أشياء: أجابة زجر الوعيد رعة، واجابة دعوة الوعد جهدا، وبلوغ مشاهدة المنة استبصارا.
فالأمر الأول سماع العامة، يمثل عامة الناس الذين لم يدخلوا ميادين العرفان، فهم في المرحلة الابتدائية يكون هذا السماع للفائدة من وعد الله ووعيده، فالوعيد الالهي والوعد كما في الأية الكريمة(( خذوه فغلوه، ثم الجحيم صلوه، ثم سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه)) سورة الحاقة الأيات 30 و31 و32.
مثل هذه الأيات التي تحذر من وعيد الله وعقوباته وعذاباته للمجرمين، لكن الأمر مختلف عند ذوي القلوب الذين دائما في حالة أتعاض وخشوع وخضوع الهي، فهكذا أنسان أذا استمع الى وعيد الله في القرأن الى أيات الله في العذاب والعقاب، تجده ينزجر من أيات والوعيد وتؤثر في قلبه ويتنور بها .
أم الأمر الثاني: أجابة دعوة الداعي جهدا، حيث أن السالك يجاهد مع نفسه ويقوم بأداء صلاة الليل ويأتي بأعمال شاقة رياضية مشروعة، حيث هذه النفس قد اعتادت مثل هذه الرياضات الشرعية.
فأذا استمع السالك أيات الله في وعده لا في وعيده، فالوعد مرتبط بالمكافأة، فعندما يؤمن الأنسان بالله ويقوم بصالح الأعمال ويؤمن بالرسالة والرسل، فهنا ينتظر المثوبة من الجنة ودرجاتهاومراتبها.
فالسالك المبتديء أذا أستمع لمثل هذه الأيات بأذنه، فأن ذلك يؤثر على قلبه، يجعل السالك يستجيب لهذه الدعوات.
الأمر الثالث: وبلوغ مشاهدة المنة استبصارا، فالمنة النعم الالهية، حيث أن السالك دائما في ذكر الله حينئذ يكون حال السالك في مباشرة كل نعمة من نعم الله من أكل وشرب، يستشعر السالك هذه المنن الالهية والنعم، ويكون حاله مستبصرا بصيرة قلبية، فهذه البصيرة تحركه لمشاهدت هذه الأثار والنعم الالهية التي لا تعد ولا تحصى، عند ذلك يحصل له سماع ببركة استماعه للوعيد والوعد ومن مشاهدت النعم الربانية.
لأن المشاهد في نفسه قد يوجد سماعا ، فعلى سبيل المثال طير من الطيور في بستان، ويكون هذا الطير ذو نغمات معينة، هذه النغمات لو أصغى لها السالك، فأن قلبه ينشرح، ويصبح هذا السماع عرفاني، مما يعني كل سكنات وحركات الوجود تصبح للسالك ذات معنى تطرب روحه وثتير فيه العشق الالهي.
أما سماع الخاصة ثلاثة أشياء: شهود المقصود في كل رمز، والوقوف على الغاية في كل حس، والخلاص من التلذذ بالتفرق.
ما هو شهود المقصود عند أهل السلوك، هل مقصدهم غير الله سبحانه وتعالى؟
فهم في مقصدهم وشهودهم لا يفكرون بغير الله تعالى، هؤلاء الخاصة من عباد الله يشهدون المقصود في كل رمز من رموز هذا العالم، في كل أن وفي كل جهة وفي كل ما يحصل من صوت وحركة.
هذا العارف والساك عندما يشهد مقصده في كل جوانب العالم، عند ذلك يحصل ويتحقق له السماع العرفاني، فلا يشترط في السماع وجود الصوت، فهذه نكتة معنوية، لأن السلاك في سيره المعنوي والروحي لا يفكر في غير الله سبحانه وتعالى، فكل حركاته وسكناته وما يحيط فيه يدل على مقصوده.
أذا فقلبه يستشعر هذه الرموز و الأسرار العرفانية، ولا يمكنه الخروج من هذا الخط وهذا المنهج.
ثم يقول الأمر الثاني الوقوف على الغاية في كل حس: يعني الوقوف على جميع المحسوسات الظاهرية والباطنية، فمثل هذا السالك يقف ويحصل له سماع عرفاني، حيث أنه يمارس غاية غاياته وهو الله سبحانه وتعالى.
فالسالك دائما ملازم لغايته من سبب خلقه وخلق العالم، فهذا الاصغاء الدائم يولد السمع العرفاني، يكون الخالص.
أما الأمر الثالث للخاصة من أهل السلوك هو الخلاص من التلذذ بالتفرق، وهذا الأمر يعد مرتبة متقدمة للسالك، فالتفرق يعني الابتعاد عن الله والغاية الأصيلة، يعني أن السالك لم يصبح بعد من خاصة الخاصة ولم يتمكن بعد من قضايا نفسه، وما زالت نفسه مشغولة، ولم يصل الى مفهوم جمع الجمع في العرفان، ولم يحصل له ذلك التمركز التام ويلتذ كما يلتذ أهل الدنيا، وما زالت تسيطر عليه الملذات الدنيا وتعلقاتها.
حيث نجد كثيرون من يلتذون من مظاهر هذه الدنيا وزخارفها وزبرجها، لكن العابد السالك العامل بأوامر الله ونواهيه لا يلتذ بالدنيا، وأنما يلتذ بالمعاني الاخروية والمقامات العالية المعنوية، فهو يتخلص بسبب سماعه العرفاني من أن يلتذ بالتفرقات، فالعارف ذو توحيد فيسعى الى سماع كل ما يمس وحدته وتوحيده، حيث يبتعد عن الكثرة وعن الملذات الدنيوية فهو متوجه الى الله في قلبه وقالبه.
فالسالك قلبه يغي لكل صوت ورمز من عالم الوجود ويستمع لكل ما يقربه الى المقصد الاعلى .
وأما سماع خاصة الخاصة: سماع يغسل العلل عن الكشف، ويصل الأبد بالأزل، ويرد النهايات الى الأول.
للسماع مراتب ضعيفة وقوية وله درجات ومراحل تبدأ من اول مرحلة الى الثانية الى الثالثة، فالسالك في مجاهداته وسيره المعنوي يرتقي ويرتقي حتى يصل الى مرحلة هذا السماع الذي يتخلل كل الوجود.
هنا يأتي السؤال عن اعلى وافضل وأقوى مراحل السماع؟
يقول الشيخ الأنصاري في هذا النوع من السماع لابد من ثلاثة اشياء، حيث على السالك الانتباه الى هذه الأمور الثلاثة، فإذا وصل السالك الى مرحلة يتمكن فيها من غسل العلل من كشفه.
في هذه الجملة كلمتان العلل والكشف، السؤال ما المراد من العلل وما المراد من الكشف؟
الكشف هو الكشف اليقيني هو الكشف التوحيدي هو الكشف الالهي العميق، ويكون صاحب هذا الكشف هو السالك، وهذه هي المرتبة الثالثة من السماع، فإذا اراد السالك أن يصل الى مرتبة أقوى من السماع، فلا بد له أن يغسل العلل والأسباب ويصل الى المسبب الأصلي والموجد الاول لهذا العالم والمخلوقات، وهو الله سبحانه وتعالى.
فإذا استمع السالك الى من يذكر عن الله، فهو بهذا السماع كأنه في حمام من الماء يغسل الأسباب والعلل الظاهرية عن قلبه، فالسالك يصبح في حالة هذه الدرجة والرتبة من السماع كمن يغسل عن كشفه الباطني الله تعالى، كمن يغسل كل ما عليه من الدرن والاوساخ، لأن هذا الماء الطاهر يطهرا، كما أن هذا السماع من النوع الاعلى الذي يغسل كل توجه للاسباب دون التوجه للمسبب، ويغسله غسلا كاملا عن كشفه ومكاشفاته الروحية.
هذا هو النوع الأول، أما النوع الثاني فهو يصل الأبد بالأزل، مما يعني أن المعاني الأبدية والاخروية الباقية وهذه الامور باجمعها وجراء سماعه العرفاني، يجب على السالك أن يصل جميع هذه الأمور التي يباشرها الى الله المقصود والمعشوق في قلبه.
لان الغاية النهائية أن يتمكن السالك بسبب سماعه وانفتاحه غير المحدود التوحيدي على هذا العالم، حيث يتمكن السالك من ربط كل ما يتحقق له بالله السرمدي والأزلي.
فقد ورد في العرفان مفردة والوصال، والمقصود منها لدى هؤلاء العرفاء هو الاتصال بالله.
فقد ورد في الدعاء المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام (( اللهم نور ظاهري بطاعتك، وباطني بمحبتك، وروحي بمشاهدتك، وسري بأتصال حضرتك ياذا الجلال والأكرام))، فالسر هو سر باطن السالك، لان هذا السر يجب أن يتصل بحضرة الله عز وجل.
فهناك فناء وهناك بقاء في عملية السير الى الله، فعند ما يبقى السالك في فنائه فإنه يسير شيئا فشيئا الى عالم البقاء، والبقاء عملية أتصال العبد بالله عز وجل، فليس للسالك في وجود داخل هذا العالم سوى الاتصال بالله تعالى، ويتم ذلك عن طريق فنائه ثم الأنتقال الى البقاء التوحيدي.
ثم يقول الشيخ الأنصاري: ويرد النهايات الى الأول، والاول هنا هو الله والشيخ يتحدث عن المرتبة الأخيرة أو الثالثة من سماع خاصة الخاصة، فهذا العبد السالك عندما ينتقل من منزل الى منزل حتى يصل الى النهايات في السير العرفاني.
فحينئذ يتمكن من خلال سماعه أن يرد هذه النهايات العرفانية الى الصادر الأول وهي الذات الأولية لله سبحانه وتعالى، الذي هو مبدأ هذا العالم.
أذا السماع الاقصى والأقوى لدى السالك، أن يغسل العلل عن الكشف، ويوصل المعاني الأبدية الى الأزل الالهي، ويرد نهايات المنازل الروحية الى الأول.
وختاما الفناء في هذا الطريق يوصله الى البقاء الالهي، فينتقل السالك الى عالم البقاء ويستضيء ويستمد ويستعين من تلك القوة الأزلية والأبدية، حيث يتحول من الفناء الى البقاء.
والحمد الله رب العالمين وصلى الله على محمد وال محمد