12- منزل الخوف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على محمد واله الطاهرين
اللهم وفقنا ووفق المشتغلين بالعلم والعمل الصالح
افتتح الشيخ الانصاري هذا الباب بالآية الكريمة (( يخافون ربهم من فوقهم)) سورة النحل الآية 50
الخوف: هو الانخلاع عن طمأنينة الأمن بمطالعة الخبر. وهو على ثلاث درجات
الدرجة الاولى : وهو الخوف الذي يصح به الايمان وهو خوف العامة، ويتولد هذا الخوف من تصديق الوعيد وذكر الجناية ومراقبة العاقبة
الدرجة الثانية: خوف المكر في جريان الأنفاس المستغرقة في اليقظة، المشوبة بالحلاوة.
وليس في مقام أهل الخصوص وحشة الخوف إلا هيبة الإجلال، وهي أقصى درجة يشار اليها في غاية الخوف، وهي هيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة ، وتصون المشاهد أحيان المسامرة، وتقصم المعاين بصدمة العزة.
لا بد من توضيح وشرح هذه الكلمات الغنية والعميقة .
يقول المؤلف أن منزلا من منازل هذا الطريق هو طريق الوصول الى الله الا وهو منزل الخوف، وهنا نقول أن على السالك الى الله ان يكون في حالة خوف، لكن للخوف درجات.
بدأ الماتن هذا الباب بالآية الكريمة التي قرأنها، أي أن عباد الله هم الذين يخافون الله من فوقهم، مع ملاحظة أن مفردة الفوق غير مقصود منها المكانية والجهات التجسمية لله تعالى، صفة المكان التي تحيط بالإنسان لا تنطبق على الباري عز وجل، لانه تعالى لا يتحدد ولا ينحصر بحدود معينة.
فكلمة الفوق يراد بها التفوق المعنوي لا حالة الفوقية المكانية التجسمية.
ثم يقول: الخوف: هو الانخلاع عن طمأنينة الأمن بمطالعة الخبر، يعني أن السالك الى الله يفتقر في موضوع الخوف أن ينخلع ويتجرد عن طمأنينة أمن نفسه، بحيث أنه يطمأن من عقاب الله وعذابه.
فكلمة الخبر تشير هنا الى ماورد في القرآن الكريم وسنة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وروايات أهل البيت عليهم السلام.
ثم أن القسم الأول من درجات الخوف، هو الخوف من عقوبة الله، ويتربط هذا الخوف بالإيمان، لأن أقل درجة من درجات الايمان هو الخوف من الله تعالى.
وهناك درجات عالية أخرى في مقام الخوف وسنذكرها لاحقا.
وعليه الخوف ثلاث مستويات: خوف العامة، وخوف الخاصة، وخوف خاصة الخاصة.
فالخوف الأول: خوف عامة الناس، ويتولد من تصديق الوعيد، وذكر الجناية ، ومراقبة العاقبة. فإذا اراد المبتدئ أن يبادر بالخوف، أن يعتني بهذه الأمور الثلاثة، يصدق الوعيد من الله سبحانه، حيث يسترجع في ذاكرته ، آيات الوعيد في القرآن الكريم، ويستحضر مرويات أهل بيت العصمة ع وما ورد على لسانهم من أحاديث عن الوعيد والانذار بعقوبات الله تعالى.
ومن جهة أخرى على المبتدئ أن يتذكر ويستحضر معاصيه وذنوبه بغية استحصال حالة الخوف لديه، لأن الإنسان الذي يستذكر مخالفاته الله تعالى تستوجب في نفسه الندم والخوف من الله تعالى، حينئذ يسعى الإنسان المتفكر في ماضيه السيء لتجنب المعاصي والذنوب.
ثم يقول المؤلف مراقبة العاقبة من الأمور العامة في الخوف، كون عامة الناس يراقبون عاقبتهم ومصيرهم، مما يوجد توجه قلبي لدى الإنسان في مصيره ومنتهاه، كما ورد في الدعاء (( اللهم اجعل عواقب أمورنا خيرا)) فالذي يخشى العاقبة السيئة يكون على حذر من مصيره وعاقبته، وهذا الخوف يكون عاملا ومحركا للتقرب من الله والعمل بأوامره والانتهاء من نواهيه.
ثم يقول في الدرجة الثانية، خوف المكر في جريان الأنفاس المستغرقة في اليقظة.
مما يعني أن هناك خوف أدق وألطف من خوف العامة، وهو الخوف من مكر الله سبحانه وتعالى ، والمكر هنا أن العبد قد يتعرض لمكر الله، وكما ورد في الآية الكريمة ((ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)) سورة الأنفال الآية 30.
لذلك قال الفقهاء الأمن من مكر الله يعتبر معصية كبيرة، فهناك مكر يقوم به الإنسان، وهناك مكر يأتي من الله، والمكر الأخير يكون أعظم واخطر من مكر الناس.
قد يتعرض الانسان خلال حياته لمكر الله وفتنته وامتحانه، وهذا يكون للانسان المتقدم في مراحل تزكية النفس ويعيش حالة اليقظة والانتباه في سلوكه الى الله، وبالرغم من ذلك يكون تحت طاولة المكر الالهي والاختبار والابتلاء.
فلا يخلو التاريخ من حوادث الابتلاء والغواية والمكر الالهي الذي تعرضوا له، فكثير من الانبياء صلوات ربي عليهم تعرضوا لامتحان عظيم، لهذا فإن مثل هذا الخوف يجعل صاحبه في حالة من الخشية والحذر من المكر الالهي، وأن لا ينغر الانسان بحالاته المعنوية ومراتبه الروحية، فقد ورد أن كثير من الافراد السائرين في طريق السلوك قد تعرضوا لمثل هذا المكر، ولم يتمكنوا من مواصلة الطريق.
وعليه على الإنسان السالك أن لا يعجب ولا يغتر في أنفاسه المستغرقة في ذكر الله وحالة اليقظة التي يعيشها والمشوبة بحلاوة الذكر والتقرب، بل عليه بشكل دائم استشعار التقصير والخطأ وعدم الصواب، وأن لا يركن الى أعماله ونفسه.
لربما يكون السالك مبتلى وهو لا يعلم بذلك، وربما يغفل عن سقوطه وتراجعه عن عين الله سبحانه وتعالى.
وأما الدرجة الثالثة، فهو الخوف الاخص أو خوف خاصة الخاصة، فهؤلاء خوفهم عجيب، لان خوفهم يكون من الخوف الأعلى والأرقى.
يقول المؤلف، وليس في مقام أهل الخصوص وحشة الخوف الا هيبة الإجلاء، وهذا يعني أن الخواص من السالكين، لا يكون خوفهم من عذاب النار، ليس خوفهم من المعاصي أو خوفهم من مكر الله، انما خوفهم من جهة عظمة الله والجلال الالهي.
فللّه سبحانه صفات جلال وصفات جمال، فإذا تجلى الجلال الالهي في قلب العارف، فيتولد جراء هذه الهيبة الالهية خوف.
فيكون هذا الخوف باطني. خوف الله لا يشابه الخوفين السابقين، لهذا يقول المؤلف عن هذه الدرجة من الخوف، هي اقصى درجة من الخوف.
حيث يشير المؤلف الى أن هذا الخوف هو أعلى درجات الخوف ، فيقول: هي هيبة تعارض المكاشفة أوقات المناجات.
فالخوف الأخص هو ما يعارض المكاشف في لحظات مكاشفاته، فالمكاشف هو صاحب الكشف واليقين، مما يعني أن هذا السالك في أعلى درجات سلوكه وقربه من الله.
مثل هذا الإنسان عندما يناجي الله سبحانه وتعالى بكلمات لسانه أو قلبه مع معشوقه التي قد تطول لساعات بسبب أنسه مع الله، فقد تحصل له هيبة الله من أثر المسامرة مع الله ومن أثر الانس مع الله، حيث يدخل جلالا من هذا المحبوب في قلب السالك، وهذا الجلال يولد هيبة الله، حيث تأخذ السالك وحشة الخوف.
ثم يقول ايضا من علامات هذا الخوف تصون المشاهد أحيان المسامرة، المسمارة تعني أن يتسامر الانسان مع أنسان آخر، عندما تكون هنالك صداقة بينهم.
والمسامرة حالة من التناغم والتفاهم بين طرفين، في السلوك تكون المسامرة بتبادل حالات العشق والمودة والوله بين الطرفين بين الرفيقين، فكيف بالمسامرة بين العبد وربه؟
عندما يصل العبد الى مرحلة من العشق والتعلق وادراك الشهود الالهي، وأصبح الشهود متجليا في ذات السالك وقلبه ونفسه، حينئذ تتملك السالك حالة الخوف.
مما يعني أن العبد يكون حذرا ومراقبا لحالة علاقته مع خالقه وربه، ولا يركن جراء ما يحدث له من مسامرة مع محبوبه عن الاطمئنان والركون، رغم أن السالك مصون من أي خطر أو انزلاق.
لكن هناك من كان قريبا من الله ولكن جراء غفلة لساعة أو لحظة سقط من عين الله. مما يعني أن الخوف تكون للسالك حالة مستمرة ودائمة كي لا يغفل ويتقهقر.
ثم يقول وتقصم المعاين بصدمة العزة، فالمعاين هو السالك الذي يعاين ويشاهد الله في قلبه، لكن خوف هذا المعاين من أن يصطدم بعزة الله وجلاله، فيكون هذا الخوف قد حدث لموسى كليم الله عليه السلام، وبعد طول المسامرة مع الله في جبل طور سيناء طلب من الله الرؤية، فقال له الجليل (( لن تراني لكن أنظر الى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني)) سورة الأعراف الآية 143
فأخذت النبي موسى عليه سلام الله الدهشة وأصابته الصعقة، فهذه عزة الله وجلاله.
فالصدمة بعد المسامرة والعشق، حينئذ تأخذ السالك ويتملك وجوده كله حالة الخوف والرهبة من جلال الله وعزته.
وأخيرا نسأل الله تعالى أن يرزقنا مثل هذا الخوف، وندعوه ونقسم عليه بأعظم صفاته أن تجعلنا من أقرب عبيدك اليك وتملأ قلوبنا حبا اليك وخشية منك.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.