13- منزل الاشفاق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطاهرين.
اللهم وفقنا ووفق المشتغلين بالعلم والعمل الصالح.
الباب الثالث عشر أو المنزل الثالث عشر من منازل كتاب منازل السائرين للمرحوم الشيخ عبد الله الأنصاري.
باب الإشفاق
قال الله تعالى *قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين* سورة الطور الآية ٢٦، لقد قلنا فيما سبق أن المؤلف يذكر في كل منزل آية قرآنية.
إنما يذكرها لأجل أن يستشهد بأن هذا المنزل مذكور في القرآن الكريم، اسم هذا المنزل الإشفاق والآية الكريمة فيها كلمة “مشفقين” إذاً الشفقة والمحبة والرحمة الإلهية التي هي دائماً تثبت في قلب السالك في طريق الله، الآية الكريمة تقول “قالوا” أي أن أهل الجنة قالوا “إنا كنا قبل” يعني في الدنيا قبل أن نموت “كنا في أهلنا” بين أهلنا وعيالنا وأولادنا، كنا في الدنيا مشفقين حذرين، نحذر من أن نخالف أوامر الله ونواهيه، الشفقة هنا في هذه الآية الكريمة تختص بالشفقة العبادية والمعرفية، يعني السالك المؤمن دائما يشفق على نفسه وعلى الشريعة الإسلامية المقدسة وعلى عباداته وأعماله، دائما هو في مراقبة مستمرة يحذر ويحتاط من أن يخالف تعاليم الشريعة ويقف على حدها وحدودها، ثم إن المؤلف يذكر تعريفا لكلمة الإشفاق، يقول الإشفاق دوام الحذر مقرونا بالترحم يعني ان مفهوم الاشفاق لأهل السير والسلوك هو أن يكون حذرهم امرا مستمرا ثابتا في قلوبهم وأن يكون هذا الحذر من المخالفة، هذا الخوف الإشفاقي يكون مقرونا بالترحم، يعني الشفقة والخوف قد يكون قاسيا وقد يكون من باب الرحمة والرأفة والمحبة إذاً، فالإنسان المخلص السالك مثل هذا الإنسان يكون في حذر وخوف ولكن قلبه مملوٌّ من الرحمة والرأفة على نفسه وعلى عباد الله، ثم يقول المؤلف وهو على ثلاث درجات يعني إن الإشفاق ينقسم إلى ثلاث مراتب، مرتبة تختص بالمبتدئين، ومرتبة أخرى تختص بالمتوسطين، ومرتبة أعلى منهما تختص بالمقربين، إذاً الدرجة الاولى اشفاق على النفس أن تجمع إلى العناد واشفاق على العمل أن يصير إلى الضياع وإشفاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها، نشرح هذه الكلمات: يقول المؤلف: النوع الاول من الاشفاق هو أن يشفق السالك على نفسه قبل ان يشفق على الناس أو يشفق على العموم من خلق الله لابد ان يشفق على نفسه كما ان الظلم أيضاً ينقسم الى قسمين ظلم يظلمه الانسان بالنسبة الى نفسه وظلم بالنسبة الى الناس والمجامع ولكن أيهما أهم؟، الأهم هو أن يشفق الإنسان ولا يظلم على نفسه، هنا لابد من أن نشرح كيف يشفق الإنسان على نفسه:
يقول هذه الشفقة يمكن لنا أن نجمعها في ثلاث أمور، الأمر الأول أن تشفق على نفسك بحيث لا يجمح أي لا يميل إلى اللجاج والعناد لأنه الإنسان ربما يفرط ويزيد في خوفه وشفقته هناك يقوم برياضات نفسية وبأعمال شاقة عبادية عند ذلك هذه النفس تجمح إلى المخالفة والعناد أما إذا أتيت مع نفسك تدريجيا ولاحظت نفسك من حيث المجموع أنه تعطيه بعض من الرياضات الشرعية العبادات الأذكار الأوراد الخلوات الروحية المعنوية بحيث لا ينجرّ إلى المعاندة والمخالفة فالعلاج هو أن تاتي مع نفسك تدريجيا لا دفعيا شيئا فشيئا تزداد من الرياضات المشروعة والاعمال العبادية
ثم يقول اشفاق على العمل ان يسير الى الضياع العمل يقصد به الاعمال التي يأتي بها الانسان المكلف والسالك في سبيل الله ياتي بتكاليف شرعية اعمال دينية يتقرب بها الى الله سبحانه وتعالى ولكن هذه الاعمال قد تشوبها المراءاة وما يضاده الإخلاص، فالعمل لابد من ان يكون خالصا مخلِصا لله سبحانه فاذا ادخلت فيه الرياء فعند ذلك هذا العمل بحكم العرفان والشرع يتبدل الى ضياع والى بطلان لان شرط صحة العمل هو النية الخالصة لله ان لا تشرك في اعمالك غير الله من عباده.
ثم يقول النوع الثالث اشفاق على الخليقة لمعرفة معاذيرها انت بنفسك تشفق على خلق الله حيث اننا نبحث في النوع الاول من انواع الشفقة وهو الشفقة على النفس فقلنا ان تشفق على نفسك ان لا تميل الى المخالفة والعناد ثم تشفق على اعمالك بان يكون خالصا ولا يتبدل الى الضياع والبطلان ثم ان تشفق على الناس وعلى المجتمع يعني بنفسك تقوم بتوعية وتثقيف وتوجيه وارشاد لخلق الله ان يتوجهوا الى الله بسلوك هذا الطريق العرفاني حيث انك تشفق على الخلق بنفسك وتريد ان ترشدهم الى الخير والتقى والايمان والأعمال الصالحة والفضائل،
فلابد من أن تعرف الدخول والخروج في هذه المعاني لابد من أنك تعرف لماذا الناس يتهربون من السلوك في هذا الطريق؟ ما هو عذرهم؟ معرفة المعاذير يعني ان تعرف ما هو عذرهم في توقفهم وعدم دخولهم في طريق السير والسلوك المعنوي والروحي لماذا يهربون لماذا يفرون ما هي أعذارهم؟ الشفقة العرفانية النفسية تدعوك لمعرفة معاذير الناس، لمعرفة معالجة توجيههم وارشادهم الى الله سبحانه وهذا لا يحصل من كل أحد انما يحصل من المشفق المخلص في طريق الله.
واما الدرجة الثانية من درجات الإشفاق: إشفاق على الوقت ان يشوبه تفرق، وعلى القلب ان يزاحمه عارض، وعلى اليقين ان يداخله سبب.
كما ان الشفقة على النفس بيّن أسبابها وطرق الوصول الى هذه الشفقة الشخصية والنفسية للسالك بينها في ثلاثة امور كذلك بالنسبة الى المرتبة الثانية التي هي اعلى من المرتبة السابقة بينها أيضاً في ٣ امور:
هنا لابد ان نقول لماذا هذه الدرجة تختص بالمتوسطين؟
لان الدرجة الاولى أهون من الدرجة الثانية الدرجة الاولى اشفاق معلوم تشفق على نفسك ان يكون هذه النفس ان لا يأخذها الظلمات والمخالفات والعناد. تشفق على أعمالك ان لا يدخل بها رياء تشفق على الناس أن تعرف كيف توصلهم الى معرفة هذا الطريق، هذه امور هينة، لكن تريد ان تشفق على جميع اوقاتك من وقت تقوم الى نومك الى الليل عندما ترجع الى النوم هذه الأوقات وهذا العمر كله لابد ان تشفق عليه ان لا يدخله اي شيء من الغفلة من المعصية من المخالفة لله وان يكون قلبك مملوءا بحب الله وان لا يشغل وقتك بشيء غير ذكر الله غير ما يرضاه الله سبحانه فالإشفاق على العمر والوقت والزمان مسألته أصعب من أن يشفق الانسان على نفسه لانك تريد ان تحمل في نفسك مراقبة حضورية ترى الله سبحانه حاضرا وناظرا في جميع احوالك واوقاتك هذا امر صعب وهذا لا يتأتى للإنسان إلا بعد الحضور في المرتبة الأولى
فالاشفاق على الوقت والعمر كيف يحصّل الإنسان هذه الشفقة؟
يقول المؤلف الشفقة بالنسبة الى ساعات وقت الانسان الشفقة هذه تقتضي ان لا يشوبه تفرق، بمعنى انك تتمركز تركز في حضور الله في قلبك ترى الله حاضرا ناظرا في جميع الحركات والسكنات إذن لابد ان يكون وقتك مستغرقا فيما يرضي الله ولا يشوبه تفرق من غير الله، التفرق هنا يعني التوحد، يعني ان يكون همك هما واحدا في الله، كما ورد في دعاء كميل بن زياد في ليالي الجمعة نقرا ما مضمونه هو أن يا رب اجعل همي واحداً وحالي في خدمتك سرمدا هذا المعنى مذكور في دعاء امير المؤمنين الذي علمه لكميل، اشفاق على الوقت أن يشوبه تفرق، ومزاحمات تعارض ذلك الحضور الروحاني والقلبي، ثم يقول العمل الثاني للإشفاق في هذا المرتبة على القلب أن يزاحمه عارض يعني انت تشفق على قلبك أن لا يدخلك عارض من عوارض غير ما يرضي الله وغير ذكر الله، فهذا أيضاً يكون أصعب من ذلك الإشفاق الذي شرحناه في المرتبة الأولى، وعلى اليقين، فالإشفاق في هذا المرتبة يشمل ثلاث أمور يشمل الوقت ويشمل القلب ويشمل اليقين الحاصل في القلب، أنت في يقينك بالله سبحانه في التوكل على الله في الامور الاعتقادية اليقينية يقينك بالله أنه معك في جميع الأحوال وهو معكم أينما كنتم أينما تولوا فثم وجه الله
هذا اليقين لابد من ان تشفق عليه بحيث لا يدخله سبب من أسباب الدنيا، ومن التعلقات
وأن يكون اليقين كشفا لله سبحانه وترى المسبب الأصلي لهذا العالم، كل الأسباب الجارية في هذا العالم الوسيع، يعني تارة الإنسان يرى السبب ولا يرى المسبب، وتارة يرى السبب والمسبب وتارة يستغرق في المسبب فلا يرى الأسباب..
أن يداخله سبب من أسباب غير اليقين أن لا تشرك في توكلك مع الله سبحانه وتعالى وفي يقينك أن لا تشرك الخلق، يعني هناك من يعتمد على جيبه وماله وقوته وقدرته، وهناك من لا يرى هذه الأشياء ويرى قدرة الله يقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، انت في الصلاة تقول عندما تقوم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وانا اسأل ايها المؤمن هل هذا الذكر وهذه الكلمة تختص بحال الصلاة، يعني فقط في حال الصلاة نقوم ونقعد ونقول لا حول ولا قوة إلا بالله ام جميع الأحوال، أنت حولك وقوتك من الله سبحانه وتعالى فلابد ان يمون هذا اليقين العرفاني شاملا لجميع اوقاتك واحوالك وان لا يداخله سبب من أسباب غير الله سبحانه، أسباب نفسية تائهة أسباب شيطانية وساوس نفسية وتعلقات دنيوية وما هناك من أسباب مختلفة.
ثم يقول المؤلف الدرجة الثالثة إشفاق يصون سعيه من العجب، ويكف صاحبه عن مخاصمة الخلق، ويحمل المريد على حفظ الحد، طبعا هذه المرتبة الثالثة هي أعمق بكثير من المرتبتين السابقتين، لأنّ هذا الاشفاق من النوع الاعلى، هذا الاشفاق هو الخوف في الضمير، هذا يشمل سعيَ الإنسان، ويشمل أيضاً الجدل والمخاصمة مع الناس، ويشمل أيضاً الحدود أو الحد والإجتهاد الذي يعمله السالك لأن يتقرب إلى الله، لابد من شرح هذه الموضوعات.
أما الموضوع الأول وهو السعي كيف يسعى السالك في طريق الله، كيف يكون سعيه فعاليته وهو من الصباح إلى المساء يكد ويحد ويسعى في سبيل الله، لكن ربما يأخذه العجب فيما يفعله من تكاليف من تعاليم من عبادات مثلا عندما يقوم في كل ليلة يتهجد لله يتعبد يصلي الليل يصلي نوافل يطول في صلاته في أدعيته وهكذا، فلابد من أن يكون هذا السعي العرفاني للتقرب الى الله لابد ان يكون مصونا من العجب والغرور، أنا أذكر أن أستاذي المرحوم آية الحق السيد هاشم الحداد رضوان الله عليه أعطى دستورا لأحد تلاميذه وقال له لمدة قصيرة تترك صلاة الليل، أنا تعجبت انو هذا الدستور كيف يحصل من استاذ هو أستاذ الأخلاق والعرفان، هو استاذ استاذ المرحوم العلامة السيد محمد الصدر رضوان الله عليه، السيد هاشم أستاذنا هو أستاذ المرحوم عبد الزهرة الگرعاوي، هذا الانسان المؤمن المخلص العارف المرحوم عبد الزهرة الذي كان صديقي في أيام كنت انا في النجف الاشرف.
اقول يا محبين لماذا اصدر استاذنا السيد هاشم دستورا وامرا بأن يترك أحد تلاميذه لمدة صلاة الليل مع ان صلاة الليل هي من المهمات لاهل المعرفة والسلوك، انا قلت في نفسي في ذلك الوقت ان هذا الأمر لابد من أن يكون له سر، وسره هو أن يأخذ هذا التلميذ السالك العجب والغرور في نفسه لابد أن يتركه لمدة، حتى أذكر أني قرأت في بعض الروايات أنه قد لا يتوقف انسان في بعض الليالي لصلاة الليل لأن لا يأخذه العجب.
فمسألة العجب مسألة مهمة بالنسبة لأهل القلوب، فلابد أن يصونوا سعيهم وأعمالهم من ان لا يصيبه العجب والغرور واذا أصابه العجب فعند ذلك كل اعمالهم تضيع ثم يقول من عوامل هذا الإشفاف في المرتبة الثالثة هو ان يكف صاحبه عن مخاصمة الخلق يعني إذا وصل السالك إلى هذه المرتبة العالية من الإشفاق فالشفقة في هذا المرتبة تقتصي عندما يعاشر الناس يعاشر المؤمنين وغيرهم لابد من أن يكف من الجدل ومن الخصومة مع الناس، لأنه صاحب محبة الهية، وهو مشفق، من اهل الشفقة والمحبة على عباد الله، فكيف يدخل في ميدان الجدل والخصومة والعداء مع الناس، لابد ان يكون رحيماً ورؤوفا عليهم، فالإشفاق في هذه المرحلة يقتضي من ان لا يدخل في المجادلات ابداً، ثم يقول ويحمل المريد على حفظ الحد.
هذه اخر جملة من مبحث الإشفاق، المريد يقصد به صاحب الارادة القوية في هذا الطريق فرق بين المحب والمريد
المريد من أتعب نفسه بحيث حصل في نفسه ارادة قوية وعزم راسخ يتمكن من أن يخالف مع أهواء نفسه ولكن المحبة هي قبل الارادة القوية فالمحب ليس بمرتبة المريد وحيث أن الإشفاق في المرتبة الثالثة، يقول المؤلف المريد السالك لابد من ان يحمل ارادة جدية هذه إذا كانت الكلمة كلمة جِدّ، لان هناك اختلاف في النسخة، بعض النّسخ ورد كلمة الجِد، يحمل المريد على حفظ الجد، وبعض النسخ، يذكر كلمة الحد، يحمل المريد على حفظ الحد.
فان كانت الكلمة كلمة الجد، يعني المريد دائما يحافظ على جده واجتهاده ولا يضعف في الوصول إلى الله سبحانه في السلوك في طي هذه المنازل والمراحل، هذا اذا كانت الكلمة كلمة الجد بمعنى الجدية والفعالية يحفظها دائما الى ان يصل الى الله سبحانه.
واما اذا كانت الكلمة كلمة الحد الحد هنا بمعنى الحدود الشرعية، يعني ان يخاف على الوظائف الدينية والشرعية دائماً المريدون في سعيهم للوصول الى الهدف المنشود لابد من ان يحافظوا على الحدود والفرائض والواجبات، وما هناك من تعاليم شرعية، لانه بعض ممن يدخل في هذا الطريق ربما لا يهتم لا بالصلاة ولا بالصيام ولا بالأعمال، ويقضي وقته في قراءة الأشعار والعشق وما هناك من كلمات كما نرى عند الصوفية كما نرى عند الجهلة الذين يتمشدقون بمثل هذا الكلمات، اما السالك المخلص في طريق الله، فهو دائما يحافظ على الحدود الشرعية.
وانا أذكُر دائما كان الاستاذ المرحوم الحداد رضوان الله عليه يذكّرنا بالإلتزام بالشرع المبين لأنه هناك الشريعة والطريقة ثم الحقيقة، فلا يمكننا أن نترك الشريعة ثم ندخل للطريقة، لابد بواسطة التعبدات والتكاليف الدينية والشرعية نتقرب شيئاً فشيئاً نسلك هذا الطريق عند ذلك نصل الى الحقائق العرفانية في أنفسنا.
نسال المولى الجليل أن يوفقنا لمعرفة ما يجب علينا وان يجعلنا من خواص عباده اللهم وفقنا لما تحب وترضى اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا اللهم وفقنا على التوحيد والولاية لأهل البيت عليهم السلام، والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.