19- منزل الرجاء
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلى الله على محمد و اله الطيبين الطاهرين
اللهم نور ظاهري بطاعتك و باطني بمحبتك و قلبي بمعرفتك و روحي بمشاهدتك و سري باستقلال اتصال حضرتك يا ذا الجلال و الاكرام.
قال مولانا المرحوم الخاجة عبد الله الانصاري في المنزل التاسع عشر من منازل السائرين و هو باب الرجاء، قال الله تعالى {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ} – الاحزاب آية ٢١-
انما اورد الخاجة هذه الاية في بداية منزل الرجاء لان من دأبه و عادته ان يسمي كل منزل يأخذ الاسم من القرآن الكريم. فحيث ان في هذه الآية كلمة يرجو الله، يرجو الله و اليوم الاخر، فهو اخذ باب الرجاء من هذه الآية الكريمة، و سمى هذا الباب باب الرجاء. ثم يقول الرجاء اضعف منازل المريدين لِأَنَّهُ مُعَارضَة من وَجه وَاعْتِرَاض من وَجه وَهُوَ وُقُوع فِي الرعونة فِي مَذْهَب هَذِه الطَّائِفَة إِلَّا مَا فِيهِ من فَائِدَة وَاحِدَة وَلها نطق باسمه التَّنْزِيل وَالسّنة وَدخل فِي مسالك الْمُحَقِّقين وَتلك الْفَائِدَة أَنه يفثأ به حرارة الْخَوْف حَتَّى لَا يعدو إِلَى الْإِيَاس.
قبل ان يقسم الرجاء الى ثلاث درجات يذكر مقدمة في هذه المقدمة يقول ان الرجاء في مقابل الخوف هو من اضعف منازل المريدين. لماذا هو اضعف؟
لانه معارضة و اعتراض و رعونة. اما المعارضة يعني العبد اذا كثر في نفسه الرجاء بالله سبحانه يكون مقابل و معارض لامر الله و حكمه يعني بسبب الرجاء الكثير يحصل في نفسه انه يطالب من الله سبحانه و تعالى. ويجعل الله مديونا بسبب طلباته حيث انه يرى ان الله هو المؤثر في كل امر من الامور و هو من باب الرجاء يمكن ان يمسح على كل مخالفة و على كل ذنب و على كل خطأ عند ذلك يحصل في نفسه ان الله سبحانه و تعالى لا يفتقر الى اي شيء من عباداته و سلوكه و الالتزام بالشريعة المقدسة المحمدية لا يلتزم بها بمثل هذه الامور و يستند في كل ذلك الى رجاءه بالله سبحانه و تعالى. و اما السبب الثاني لكون الرجاء اضعف منزل من منازل السلوك انه السالك في تقويته للرجاء يعترض لاحكام الله سبحانه و تقديراته و مشيئاته و اراداته، يعترض في هذه الامور و يكون صاحب طلب من الله سبحانه و تعالى مع انه عبد و العبد كل ما يملك فهو من مولاه و ايضا بسبب هذا الرجاء ممكن ان يحصل في نفسه رعونة و تكاسل بالنسبة لالتزامه بالشريعة المقدسة و التزامه بالواجبات و تركه للمحرمات. هذا الخطر متوجه طبعا للمبتدي في هذا السلوك اذا سند الى الرجاء من غير خوف. و لهذا من اللازم ان يعتدل بين خوفه و رجائه لأن لا يحصل مثل هذه الاشكالات في نفسه. ثم يقول الشيخ الانصاري يقول فيه فائدة واحدة الرجاء ممكن ان يكون له فائدة و لهذا يجب ان نتعرض لفائدة هذا الرجاء في نفس المريد. يقول لها نطق باسمه التَّنْزِيل وَالسّنة. السنة احاديث الرسول و اهل بيته. عندما نقرأ القرآن نجد هناك ايات تدل على ان العبد يجب ان يكون في نفسه رجاء و هكذا الاحاديث الشريفة الواردة عن اهل بيت العصمة لان الخوف وحده اذا ازداد من غير رجاء يحصل في نفس السالك ما هو بهذا المعنى ان ذنوبه كثيرة و هذه الذنوب و المعاصي تتجسم في نفس العبد و ربما يقول ان توبته لا تقبل عند الله و ذنوبي كثيرة و كذا و كذا بحيث يحصل في نفسه يأس من رحمة الله و ييأس من مغفرة الله مع ان الله سبحانه و تعالى هو الغفور الرحيم و هو الذي يقبل التوبة من عباده. اذا لماذا هذا اليأس لان العبد يمشي في طريق الخوف و يقوي في نفسه الخوف الشديد من غير رجاء يحصل في نفسه هذا اليأس و اليأس من رحمة الله الفقهاء اجمعوا على انه من كبائر الذنوب فلا بد ان ينفي هذا اليأس و لا ينفي هذا اليأس الا الرجاء. لا بد ان يكون في نفسه رجاء لمحو ذنوبه و قبول توبته و التقرب منه سبحانه. اذا كما ان الله سبحانه و تعالى شديد العقاب هو ايضا غفور ودود حليم عطوف رحيم يعفو عن ذنوب عباده. لماذا هذا اليأس بسبب الخوف؟! فلا بد من الاعتدال بين الخوف و الرجاء لان الرجاء اذا ازداد من غير خوف. اذا له آفة و اثر منفي. الاثر المنفي هو يولد في نفسه من كثرة الرجاء من دون خوف الامن من عقوبات اللهو عذابه و مؤخذاته اذا فلا بد ان يكون في قلب المؤمن الخوف و الرجاء. الخوف الجلالي و الرجاء الجمالي. لان الله سبحانه صاحب جلال و صاحب جمال. فلا بد من ان يجمع بنفسه الخوف و الرجاء و يكون معتدلا في هذين الامرين و الا فالعواقب وخيمية و شديدة اذا لم تكن في هذه الحالة و لهذا الشيخ الانصاري يقول ان الرجاء نطق به القران و الاحاديث الشريفة. و ايضا هذا الرجاء دخل في مسالك المحققين. المحقق هو الذي وصل الى التحقيق و الحقيقة الالهية يعني هو المرتبة العالية في السير و السلوك مقابل المبتدي و المتقدم في هذا الطريق. المحقق من كان في اعلى مراتب السير و السلوك. يقول الشيخ الانصاري المحققون يعتمدون اكثر شيء على الرجاء بالله لا يعتمدون على اعمالهم الصالحة لانهم قد خرجوا من انانية انفسهم و تقربوا الى الله تعالى فلا يرون الا الله فحيث ان العبد لا يرى الا الله سبحانه فانه يستند على رجاءه و رحمته و لهذا قيل ان آخر مراتب السير و السلوك انه يغلب رجاءه على خوفه ثم يقول و تلك الفائدة أنّه يفثأ حرارة الخوف يعني الخوف الشديد بسبب الرجاء هذه الحرارة في نفس السالك تطفئ أو تخف بسبب الرجاء حتى لا يعدو إلى الإياس اي لا يتعدى الخوف في نفسه إلى اليأس من رحمة الله .فالخوف من غير رجاء يتعدى إلى اليأس من رحمة الله و الرجاء من دون خوف يتعدى إلى الأمن من عذاب الله و مكره و مؤاخذاته ،فلا بد من الاعتدال .
ثم يقول الرجاء على ثلاث درجات ، الدرجة الاولى رجاء يبعث العامل على الاجتهاد ويولد التلذذ بالخدمة ويوقظ لسماحة الطباع بترك المناهي .
الخواجة يقسم الرجاء إلى ثلاث درجات ، درجة إبتدائية ثم درجة متوسطة ثم درجة عالية .
الدرجة الأولى للمبتدئين ، كيف يحصل هذا الرجاء ؟
يحصل من عوامل ثلاثة ، العامل الأول أن الرجاء يولد في نفس السالك الجد و الاجتهاد ، لماذا ؟ لأنه إذا رجى الله وتقرب إليه بسبب أنه يُصوّر في نفسه غفران الله ورحمة الله ، عندما يحصل هذه الحالة في نفسه فهو يريد أن يأتي بما يكون مرضياً عند الله سبحانه وتعالى بسبب ما تقرب به من الرجاء ، فحيث أنه تقرب إلى الله ، يريد ألا يعمل شيئ يخالف رضا الله سبحانه وتعالى ، فيتحرك و يشتغل و يجد ليعمل بما أمره الله سبحانه وتعالى، هذه الفائدة الأولى.
” ويولد التلذذ بالخدمة ” ، الفائدة الثانية أنه بسبب رجائه يتقرب لله سبحانه و هذا الرجاء يولد في نفسه لذة لأنه يرى نفسه قريباً من الله سبحانه وتعالى وبسبب هذا القرب يتلذذ بما يفعل من خدمات ، بما يأتي من خيرات و عبادات و اي شيئ اسمه الخدمة يتلذذ منها بسبب ما يرى الله قريباً في نفسه وذلك من حيث الرجاء .
” ويولد لسماحة الطباع بترك المناهي” العامل الثالث هو أن هذا الرجاء يولّد في نفسه سماح ، يعني الطبيعة الأولية في الإنسان أنه يحب المعاصي والتوجه للدنيا و ملذات نفسه الأمارة ، ولكن بسبب رجائه بالله و قربه منه سبحانه هذه الطبيعة النفسية الإنسانية تتغير و تتحول إلى لطف و جود و سماح بحيث أنه يترك المناهي والمحرمات لهذه اليقظة التي حصلت في نفسه وذلك عن طريق الرجاء ، فالطبيعة الأولية تتحول الى طبيعة ثانوية وهي طبيعة ترك المناهي .
أما الدرجة الثانية ” رجاء أرباب الرياضات ” أرباب الرياضات يعني الذين يتحملون الرياضات النفسية ويخالفون أهواء أنفسهم وذلك يولّد في نفسهم الرجاء بالله ، يقول أن يبلغوا موقفاً تصفو فيه هممهم برفض الملذوذات و لزوم شروط العلم و استقصاء حدود الحمية .
نشرح هذه الكلمات نقول إن الشيخ الأنصاري يقصد بكلمة الرياضات أن السالك يتحمل الرياضات المشروعة و لا يقصد الرياضات الغير المشروعة مثل رياضة المرتاضون الهنود و أمثالهم ، إنما الرياضات الشرعية يقصد بها مثل صلاة الليل و قلة الأكل و قلة الكلام و قلة المنام ومثل هذه الأمور التي و إن كانت صعبة على السالك لكنه يختارها و يخالف نفسه و يتحملها ، فإذا تحمل هذه الرياضات عند ذلك تصفو الهمم اي إرادة السالك تصفو بسبب هذه الرياضات ويحصل في نفسه صفاء روحاني معنوي بحيث يتوفق للأمور التالية ، الأمور التالية ما هي !؟
يقول ” رفض الملذوذات” يعني يترك ويرفض اللذات و الشهوات النفسية و الدنيوية بسبب الرياضات التي تحملها ثم يقول ” ولزوم شروط العلم” الفائدة الثانية من الرياضات هي أنه يلتزم فيما اشترط عليه العلم و كلمة العلم في كتاب منازل السائرين يعني بها الشيخ علم الشريعة يعني السالك عندما تفقه و تعرف على أحكام الإسلام والشريعة المقدسة بسبب رجائه الذي حصل في نفسه من الرياضات، فإن هذا الرجاء بالله منها أنه هذا الرجاء يولد في نفسه ما يرفض اللذات المادية و أيضاً يسبب أن يلتزم بما ورد في الشريعة المقدسة و أيضاً ” يستقصي حدود الحمية ” الحمية هي الغيرة يعني المؤمن المرتجى بالله بسبب رجائه وقربه من الله يحصل في نفسه غيرة معنوية و غيرة إلهية، إن الله غيور ومن غيرته حرّم الفواحش و هذه الغيرة الإلهية تنتقل الى نفس المريد لأن نفسية المريد نفسية إلهية وقد ورد في الحديث ” تخلقوا بأخلاق الله ” فحيث أن من أخلاق الله الغيرة , المؤمن أيضاً يكون غيور ، نُمثّل مثال عندنا غيرة الناموس وهذه شلون ، أن الشاب قبل تزويجه لا يحسه في نفسه لديه غيرة على الزوجة لأن المرأة لم تكن زوجته إنما هي في بيت أبيها ولكن هذه البنت التي في بيت أبيها اذا تزوج بها يحصل لديه غيرة ناموسية يعني يقول إن هذه المرأة هي زوجتي ومتعلق بنفسي فلا بد أن أغار عليها و كذلك المعنويات و القرب الإلهي ، أنت عندما تتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ويحصل لديك انوار إلهية وعشق الهي و قرب إلهي عند ذلك تكون غيوراً بسبب ما ورد في قلبك من اسرار ، اسرار إلهية و هذه الأسرار لا تفشى ولا تظهر عند كل احد فلا بد من أن يكون العبد الراجي بالله سبحانه الذي تحمل الرياضات ثم حصل على أنوار وبصيرة وربما مكاشفات وربما نعم اسرار معنوية ، هذه الأسرار الملكوتية الإلهية لا يُفشيها و لا يُظهرها لأي أحد من عوام الناس إنما يحتفظ بها و يكتمها في نفسه لأنه صاحب حمية وغيرة بالنسبة لهذه الأسرار المعنوية .
ثم يقول الشيخ الدرجة الثالثة ” رجاء أرباب طيب القلوب”، ذكر الدرجة الأولى من درجات الرجاء وهي درجة المبتدي ثم ذكر المتوسط في الرجاء و سمى هذا الرجاء ” الرجاء الرياضي” والذي يحصل من وراء الرياضات النفسية ثم ذكر الدرجة الثالثة ” رجاء أرباب طيب القلوب ” طيب القلوب يعني القلب الطيب ، القلب الطاهر ، القلب المنوّر بنور الله ، هذا القلب يحمل رجاءاً عالياً فوق الرجائين الذين ذكرهما سابقاً ، نرى أن هذا الرجاء كيف يحصل وماهي كيفيته!؟
” وهو رجاء لقاء الحق عز وجل ” هذا الرجاء ازداد في نفس السالك إلى الله بحيث رأى في نفسه ملاقاة لله سبحانه بالرجاء الحاصل في نفس القلب الطاهر هو رجاء الشوق و المعرفة و الملاقاة الإلهية طبعاً يكون هذا الرجاء من أعلى درجات الرجاء و هذا الرجاء يولد في نفسه هذه الأمور الثلاثة يقول ” الباعث على الاشتياق” و ” المنغّص للعيش ” و ” المُزهد في الخلق” ، يعني عندما يحصل بسبب طيب قلبه رجاء ملاقاة الله يولّد في نفسه مثل هذا الرجاء ، يولّد العشق والشوق بالله سبحانه ، فإذا اشتاق اشتياقا شديدا وعرف أنه في جوار الله سبحانه عند ذلك لابدّ من هاتين الخاصيتين :
الخاصية الاولى ” المنغّص للعيش ” يعني عندما يلاقي الله في نفسه ويرى عظمة الله في قلبه ويزداد شوقاً وعشقاً به طبعاً يتنغّص عيشه ، ماذا يعني تنغّص العيش ؟! يعني إن معيشته في هذه الدنيا زائلة ، هذا العيش الدنيوي يتنغّص وينقص شيئاً فشيئاً بنفسه ، فلا يلتذّ بالأمور الظاهرية الدنيوية ، بالملذات المادية ، حيث أن قلبه اتصل بالله واشتاق إليه ، فلا ينظر إلى هذه الأمور المادية ويتنغّص عيشه بسبب زيادة شوقه لله سبحانه ، وايضاً ” المُزهد في الخلق ” يعني بسبب رجائه الكثير بالله سبحانه لا ينظر إلى خلق الله ، لا ينظر إلى الناس، بل يتزهّد وتصير نفسه النفسية زاهدة بالنسبة لغير الله ، لأن القلب حرم الله كما قال الإمام الصادق (ع) : القلب حرم الله فلا تسكن في حرم الله غير الله .
فهو حيث يحمل قلباً طاهراً نقياً شائقاً وعاشقاً لله سبحانه عند ذلك لا ينظر إلى الحياة الدنيوية ويتنغّص عيشه أيضاً ، يتزهد في غير الله ، يتزهد في خلق الله سبحانه و ينحصر حبه وشوقه في الله سبحانه ، طبعاً هذه في الدرجة الأخيرة من درجات الرجاء تظهر له هذه الحالة حالة الشوق و العشق الإلهي بحيث يخرج من قلبه كل ما يكون مخالفاً لهذا العشق من غير الله سبحانه .
نسأل الله أن يوفّقنا لمثل هذه الدرجات العالية من القرب الإلهي و العشق الإلهي ، اللهم وفّقنا لما تحب و ترضى ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً ، اللهم عجّل لوليك الفرج و العافية و النصر و اكتبنا من خير أنصاره و أعوانه والسلام عليكم أيها المشتاقون إلى الله جميعاً ورحمة الله وبركاته.