21- منزل الرعاية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين و صلى الله على محمد وآله الطاهرين
إن الشيخ الأنصاري في مقدمة الكتاب قسّم هذا الكتاب ” منازل السائرين ” إلى أقسام عشرة وهي : قسم البدايات ثم قسم الأبواب ثم قسم المعاملات ثم الأخلاق ثم قسم الأصول ثم قسم الأودية ثم قسم الأحوال ثم قسم الولايات ثم قسم الحقائق والقسم العاشر هو قسم النهايات.
نحن قد بدأنا بالقسم الأول وهو قسم البدايات للمبتدئين وقد أكملنا ذلك القسم ثم ابتدئنا بذكر الأبواب العشرة وتتمناها أيضاً وهذا اليوم نبدأ بقسم المعاملات ، المقصود بالمعاملات هو أن السالك إلى الله يحتاج في سلوكه و معاملته مع الله سبحانه وتعالى إلى هذه الأمور العشرة وهي : الرعاية و المراقبة ثم الإخلاص و التهذيب و الإستقامة والتوكل و التفويض و الثقة و التسليم ، هذه معاملات عشرة يتعامل بها العبد مع الله سبحانه وتعالى.
أما المنزل الواحد و العشرون من منازل السائرين وهو باب الرعاية واول باب من أبواب القسم الثاني وهو قسم المعاملات.
قال الله عز وجل :” فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ” الرعاية صون بالعناية وهي على ثلاث درجات.
إنما ذكر الآية القرآنية لأجل أن يتخذ عنوان هذا المنزل من القرآن. إن قوم عيسى عليه السلام لم يؤدوا حق الرعاية ، فإذاً الرعاية أمر إلزامي لكلّ مؤمن سالك في السلوك لله سبحانه ، الرعاية تعريفها كما يذكر صاحب منازل السائرين هو الصيانة بالعناية ، يعني أن يعتني العبد بما يفعله من أفعال يعتني بذلك الفعل ليصون من الآفات و يرعى حق الرعاية ، والرعاية في الأعمال و الأحوال و الأوقات طبعاً إلى ثلاث درجات .
الدرجة الأولى للمبتدئين من أهل السلوك ، هذه الدرجة تسمى ب ” رعاية الأعمال” يعني المبتدئ السالك يرعى أعماله وأفعاله من عبادات وغيرها يرعاها برعاية ربانية إلهية ، وأما الدرجة الثانية فهي ” رعاية الأحوال” يعني بعد الأعمال ينتقل العبد إلى أحواله الروحية والقلبية ، أيضاً مثلما يدقق في أعماله يجب أن يدقق في أحواله .
الدرجة الثالثة ” رعاية الأوقات” يعني السالك في أوقاته مع الله يرعى بأن لا تخلو أوقاته من ذكر الله سبحانه و مما يجب عليه .
فأما رعاية الأعمال ” فتوفيرها بتحقيرها و القيام بها من غير نظر إليها و إجراؤها مجرى العلم لا على التزين بها ”
كيف يرعى السالك أعماله و عبادته ، يقول المؤلف ، يقول إن هذه الرعاية يجب أن يكون فيها هذه الأمور الثلاثة.
اذا أراد أن يرعى أعماله فعليه” أن يوفّرها بتحقيرها” ، التوفير هو التكثير من العمل الصالح ، اذا اراد أن يستكثر من العبادات والأعمال الصالحة والخيّرة فيجب أن يحقّرها و يستصغرها في نفسه حتى يستكثر من العمل لأنه إذا لم يحقّر العمل و كانت العبادة في نظره أمراً عظيماً فإنه لا يتوفّق لا في أصل العبادة و لا في تكثيرها لأنه يرى العمل عملا كثيراً و عظيماً و هذه العبادات تؤثر في نفسه اي في غروره وعجبه و كبره بسبب هذه الأعمال التي يعملها.
إذاً كيف يستكثر منها و كيف يستخلصها لله سبحانه وتعالى ، هذا هو الأمر الأول.
وأما الأمر الثاني يقول الشيخ إن رعاية الأعمال ” القيام بها من غير نظر إليها” ، يعني يقوم بأعمال مرضية لله لكن لا ينظر إليها بنظر نفساني ويقول أنا قد اتيت بهذه الصلاة أو الصوم أو بهذا الزكاة أو الخمس أو ما شاكل من أعمال. الأمر الثالث في تحقيق الرعاية هو : ” إجراؤها مجرى العلم ” قلنا إن الشيخ الأنصاري في كتاب المنازل أينما ذكر كلمة علم يقصد به علم الشريعة ، فالسالك إلى الله سبحانه عندما يراعي أفعاله و أعماله يجب أن يجعلها مجرى الشريعة المحمدية ، يعني هذا العمل هل هو موافق مع الشرع المبين ام هو مخالف ، إذاً لا بد أن يطبق أعماله مع الشريعة الإسلامية ثم يقول ” لا على التزين بها ” يعني لا بمعنى أن يزيّن نفسه بهذه الأعمال ، لأن التزيّن بأعماله ربما يجعل نفسه اكبر مما كان ، فالمنظور هو أن تروض النفس بالرياضات الشرعية ، بالرياضات العملية، لا أن تكبر النفس ، اذاً فلا بد من أن يحقّر نفسه أن لا ينظر إليها أن لا يتزيّن بها تزيّن ظاهري ، نعم التزيّن المعنوية القلبية الإلهية لا بأس بها ، أما أنه يتزيّن بها للناس ويقول إني أصلي صلاة الليل ، إني أفعل كذا وكذا ، إني أفعل الخيرات و الإنفاقات وما شاكل فهذا مما يُعطي عكس المطلوب ، يعني يُعطي تأثيرات غير مطلوبة.
ثم يقول الشيخ وأما ” رعاية الأحوال” ، ننتقل من الدرجة الاولى الى درجة أعلى إلى الدرجة الثانية وهي أن العبد كما يرعى أعماله ، يجب أن يرعى أحواله أيضاً و حالاته المعنوية و الروحية بحيث لا تشوب هذه الأحوال بمشوبات الرياء أو مشوبات ما ينفي الأحوال.
فهي يقول الشيخ هذه الرعاية الحالية تتضمن هذه الأمور الثلاثة ، لأجل أن تعمل رعاية في احوالك أيها السالك ، لا بد لك من أن ترعى هذه الأمور الثلاثة:
الأمر الأول ” أن يُعدّ الإجتهاد مراياةً و النفس تشبّعاً و الحالة دعوة ”
يعني عندما يريد أن يحسّن أحواله ويجعل حالته حالة توحيدية إلهية فلا بد أن يراعي الأمور الثلاثة ، ما يفعله من جد و جهد في أفعاله ، يجب أن يجعل هذا الجد و الجهد مراءاةً يعني يفرضها رياءاً لغير الله سبحانه ، لماذا ؟ لأنه يفكر إن هذا الجهد القلبي هو من قد أداه بنفسه ، مع أنه ليس هو الواقع ، الواقع هو أن الله وفّقه وان الله كان معه ، لكن ينسب الى جده و اجتهاده وطبعاً هذا يكون مراءاة .
إذاً فرعاية الحال القلبي و المعنوي أن يرى فيما يفعله من اجتهاد في مقابل ما ينصره الله في هذه الأحوال ، يرى جدّه و جهده مراءاة لنفسه أيضاً ” أن يرى النفس تشبّعاً” يعني النفس التي يحملها هذه النفس بسبب ما ظهر في نفسه من احوال روحية و معنوية يرى هذا الحال قد أشبع نفسه به و لم يشبع روحه و تقواه ثم كانت هذه الحالات سبباً لأن يكبر النفس ، ثم الأمر الثالث ” يرى حاله دعواً من دعواه ” كما نقرأ في دعاء عرفة ” إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري ، إلهي أنا الجاهل في علمي فكيف لا أكون جهولاً في جهلي ” يعني إن كل ما أراه وأفعله من فعل و حال و عمل ، كل ذلك ليست هي بسبب نفسي وادعائي إنما هي توفيقات من الله سبحانه و تعالى و معونات منه ، شملني هذا العون الإلهي فتوفقت لمثل هذه الأحوال أو الأعمال.
ثم يقول ” وأما رعاية الأوقات” كيف يراعي السالك أوقاته ؟
يقول يجب أن يتوجه بهذه الأمور الثلاثة ، الأمر الأول ” أن يقف مع خطوه ثم أن يغيب عن خطوه بإصطفاء الرسم ثم أن يذهب عن شهود صفوه ”
السالك في أوقاته يخطو خطوات لله سبحانه ، فهو اذا أراد أن يرعى وقته في هذه الأوقات يجب عليه أن لا يسرع في خطواته ويقف وقفة معنوية ليرى كيف يصدر منه هذه الخطوات السلوكية ثم ” أن يغيب عن خطوه بالصفات عن رسمه ” ، إذاً الأمر الأول أن لا يسرع في خطواته الزمنية و الوقتية مع الله ، إنما يتأمل ويقف وقفة ثم يخطو ، يعني تكون خطواته خطوات محسوبة وخطوات تحصل مع التأمل و التمعن ، الأمر الثاني: الثاني أن يغيب خطوه ، يعني هذا أمر ثانٍ أدق من الأمر الأول ، الأمر ان لا يسرع في خطواته وعندما يخطو إلى الله سبحانه يخطو بخطوات تأملية والأمر الثاني هو أدق من الأمر الأول ، يعني أن لا يرى هذه الخطوات من نفسه إنما يراها من الله سبحانه ، أن يغيب عن خطوه وكيف يغيب ؟ ” بالصفاء من رسمه ” يعني يصفو عن رسم ما فعله في أوقاته من أعمال ترضي الله سبحانه و تعالى لأن هناك بعض الناس ممن يقضي وقتاً مع الله سبحانه وتعالى ويفعل ما يفعل بما أنه من رسوم عبادية ظاهرية لكن السالك لله سبحانه والذي يريد أن يقضي وقته بإخلاص وصفاء مع الله سبحانه وتعالى يجب أن يزيل هذه الرسومات من نفسه ويصفو نفسه لله سبحانه وتعالى لكي يتحقق الوقت الذي قضاه مع الله وقتاً صافياً خالصاً مع الله سبحانه .
وأما الأمر الثالث وهو الأمر الأخير ، يقول الشيخ ” ثم أن يذهب عن شهود صفوه ” وهذا أمر أدق من كل الأمور التي ذكرها من أول المنزل إلى هنا ، انظر أيها السالك يقول الشيخ إن ما فعله من خطوات مع الله سبحانه ومن أفعال أو نيات أو احوال فيما قضاه من وقته مع الله سبحانه يجب في الأمر الثالث من الدرجة الثالثة أن يكون قد ذهب بشهوده مع الله عن صفوه ، بمعنى أنه لا يرى في نفسه أنه هو فعل صفاءاً روحياً قلبياً ، لا ، بل يغيب عن شهود صفوه الشخصي مع الله ، لا يرى هذا الصفاء من نفسه أنه فعله هو وهو شهد هذا الصفاء ، إنما ينظر بنظرة توحيدية ، ينظر أن الله سبحانه وتعالى أولد هذا الصفاء في روحه وجعل هذا الوقت الذي قضاه معه جعله وقتاً خالصاً صافياً لله سبحانه.
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا ويهدينا لما ذكره الشيخ من إرشادات روحية وسلوكية والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته .