22- منزل المراقبة

22- منزل المراقبة

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدلله رب العالمين و صلى الله على محمد وآله الطاهرين.
الكتاب الذي بأيدينا هو كتاب منازل السائرين للعارف المرحوم عبدالله الأنصاري ، المنزل الذي نريد أن نوضّح فيه هو المنزل الثاني والعشرون وهو باب ” المراقبة” .
قال الله عز وجل: ” لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ” ، وقال تعالى :” فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ”  المراقبة دواء ملاحظة المقصود ، الشيخ الأنصاري في منزل المراقبة يأخذ إسم هذا من الباب من قوله تعالى :” لا يَرْقُبُونَ “، لفظياً المراقبة من قوله تعالى ” لا يَرْقُبُونَ ”  يكون من باب واحد ، من مشتقات الرَقَبة ، يرقب ، أو راقب ، يراقب ، مراقبة ، وكل مزيد فيه من الأفعال يرجع إلى فعل ثلاثي ، إذاً فالمادة في اللغة هي الراء والقاف و الباء و إنما سمي هذا الباب بالمراقبة لأنه مشترك بين العبد و الله سبحانه وتعالى ، بمعنى أن ان العبد يداوم في مراقبته مع الله سبحانه وتعالى ويجعل الله رقيباً على أفعاله وما يصدر منه كما في القرآن: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) ، هذه الآية: ” لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ”  هذه الآية تفسيرها بالنسبة إلى غير المؤمنين من المشركين والكفار يعني أن الكفار لا يرون حقاً ، ” إِلًّا ” يعني حقاً ، ” وَلَا ذِمَّةً ” للمؤمنين ، بمعنى أن الكافر يرى نفسه هو الأصل في الحياة و يرى غيره من من المؤمنين الذين لا يؤمنون بما يعبد من أصنام ، لا يرون لهم حقاً ، الحقيقة أن هذا المعنى يصدق في المؤمنين ولا يصدق في الكفار ، ولكنهم هكذا لا يرون حقاً للمسلمين و للمؤمنين ، ” وَلَا ذِمَّةً ” الذمة هنا يعني أن المولى عندما يشتري عبداً ويأتي به إلى الدار ليخدمه،  طبعاً هذا العبد له ذمة في ذمة مولاه ، بمعنى أنه يجب أن ينفق عليه وأن يحفظه من كل ما يكون ضرراً لصحته وسلامته ، الكفار لا يرون حتى هذه الذمة للمسلمين ، ولا يرون لهم حقاً ، من هذه الآية ، يعني من النفي نستنتج الإثبات ، يعني اذا كان الكافر لا يرى حقاً للمؤمن ، فالمراقبة تكون بالنسبة للمؤمنين أمراً إلزامياً ، فلو كان الكافر لا يرقب ولا يرى ذمةً و لا حقاً ، فإن المسلم ليس كذلك ، ولهذا إن الإسلام حتى بالنسبة لأهل الكتاب يراهم أهل ذمة ، ويرى هذه المعاهدة بين الحكومة الإسلامية وبين الأقليات الدينية التي تعيش في ظلها ، هذا الحكم الإسلامي يرى حقاً لهم و يرى ذمة لهم و لهذا سموا بأهل ذمة أهل الكتاب ، يعني إن دمائهم و نواميسهم و أموالهم ، كل ذلك يجب أن تحفظ في حكم الإسلام ، فكلمة المراقبة تؤخذ من”  لا يرقبون ”  ، يعني ان المراقبة واجبة و ملزمة وان كانت غير ملزمة بالنسبة إلى غير المسلمين.
ثم يقول في تعريف المراقبة ” المراقبة دوام ملاحظة المقصود ” ، ما هو المقصود بالنسبة لأهل السير والسلوك ؟ أيكون المقصود غير الله ؟ فالمقصود و المقصد بالنسبة لأهل السلوك هو الله جل جلاله و عظم شأنه ، فلا بد من السالك أن يراقب دائم الأوقات ، ليلاً و نهاراً و في كل حال و في كل زمان وفي كل مكان ، يجب أن يكون دوام المراقبة لملاحظة المقصود وهو الله سبحانه اي أن الله يراه في قلبه دائم المراقبة ، ثم يقول الأنصاري ” هي على ثلاث درجات ” المراقبة تنقسم إلى مراقبة المبتدئين و المتوسطين و المنتهين ، أما المراقبة الابتدائية وهي الدرجة الأولى من أنواع المراقبة ، يقول ” مراقبة الحق في السير إليه على الدوام ” يعني العبد السالك يجب أن يراقب الحق وهو الله سبحانه عندما يكون سائراً وسالكاً إليه وهذه المراقبة تكون مراقبة أزلية أبدية لا أنها وقتية و مؤقتة ، ثم يقول ” مراقبة المبتدئ تكون ” بين تعظيم مذهل و مداناة حاملة و سرور باعث ” إذا يجب أن يلاحظ المبتدي في مراقبته هذه الأمور الثلاثة .
الأمر الأول” التعظيم المذهل ” التعظيم لمن ؟؟ التعظيم لله سبحانه وتعالى ، و هذا التعظيم يجب أن يكون مذهلاً لغير الله سبحانه ، معظماً  لجلال الله و مزيلاً في قلبه عن غير الله ، هذا هو الأمر الأول في المراقبة.
الأمر الثاني ” مداناة حاملة ” المدانة من الدنو بمعنى أن يقرّب العبد نفسه لله سبحانه ، في مراقبته و يكون أيضاً قلبه حاملاً أو حاملة للمقصود ، يعني أن يحمل ربه في نفسه ، أن يراه دائماً لحضوره في نفسه  ، هذا هو الأمر الثاني .
الأمر الثالث ” السرور الباعث” ، لأي شيء ؟؟ الباعث للوصول لله سبحانه ، يعني مراقبة المبتدي يجب أن تقارن سروراً روحياً قلبياً يبعثه هذا السرور ، يبعثه للوصال مع الله سبحانه وتعالى. إذاً هذا الذي ذكرناه بالنسبة لمراقبة المبتدئين .
وأما السالك المتوسط يحب أن يعتني بالمراقبة من الدرجة الثانية وهي ” مراقبة نظر الحق إليه” يعني السالك في هذه المرحلة بعد أن أمضى المرحلة الأولى يجب أن تكون جميع حواسه وأفكاره متجهاً للحق سبحانه و يراقب نظر الله إليه ، بمعنى أنه يرى الله سبحانه وتعالى حاضراً ناظراً على أفعاله وأقواله و جميع حركاته و سكناته ، من اي طريق نتمكن أن نحصل على هذا النوع من المراقبة ؟ يقول الشيخ يمكنك أن تحصل على هذه المراقبة بواسطة طرق ثلاث ، إما عن طريق ” رفض المعارضة ” أو من طريق ” الإعراض عن الاعتراض ” أو عن طريق ” نقض رعونة التعرض ” .
يجب أن نوضّح هذه الأمور الثلاثة لتحصيل هذا النوع من المراقبة الثانية ، يقول الشيخ اذا أردت أن تحصل على هذه المراقبة العالية من أنواع المراقبة يجب عليك أن ترفض المعارضة في قلبك وأفكارك ، يعني لا تكون إرادتك معارضة لإرادة الله سبحانه ، يعني يجب عليك أن تعرف ما هو المرضي لله سبحانه وما هو الذي لا يرضاه ، فإذا رفضت المعارضة بين ما انت ترغب إليه و ما الله قد أوجب عليك ، هذه المعارضة يجب أن تنتفي.
متى تنتفي هذه المعارضة  ؟ عندما تكون مراقباً لنظر الله  عليك ، هذا هو الطريق الأول.
الطريق الثاني ” الإعراض عن الاعتراض” الإعتراض في أي شيء ؟ الإعتراض في قضاء الله ، الإعتراض في قدره و أحكامه و ما يجري عليك في أمور تخصك  ، إذاً يجب عليك أن لا تعترض نفسياً قلبياً روحياً ، لا تعترض على الله سبحانه فيما قدّر لك من أمور .
وأما الأمر الثالث في هذا النوع من المراقبة فهو ” نقض رعونة التعرض” النقض بمعنى أن يكسر العبد بذلّته و خروجه عن هوى نفسه ، ينقض الرعونة في تعرّضه ، يعني هو يملك هوى نفسه ، يملك الأنانية النفسية ، وهذه الأنانية النفسية أمام حكم الله سبحانه ، هذه الأنانية  لها رعونة و موافقة مع طبع النفس الأمارة ، لكن من يراقب الله سبحانه وتعالى و يقدّم إرادته ومرضاه على مرضى نفسه ، مثل هذا العبد ينقض كل هذه التعرضات ، ينقضها و ينفيها عن نفسه وتكون نفسه نفس مقبولة عند الله سبحانه وتعالى وذلك بسبب هذه المراقبة التي يفعلها طيلة أوقاته ، هذا ما ذكرناه بالنسبة للدرجة الثانية .
وأما الدرجة الثالثة ، فهذه أعمق من المراقبتين اللتين ذكرناهما ، ما هو هذا النوع من المراقبة ؟ يقول ” مراقبة الأزل بمطالعة عين السبق استقبالاً لعلم التوحيد و مراقبة ظهور إشارات الأزل على احايين الابد و مراقبة الخلاص من ربطة المراقبة”  .
الدرجة الثالثة وهي آخر وأعلى درجة في مراقبة السالك مع الله سبحانه وتعالى هذا النوع من المراقبة تتضمن هذه الأمور الثلاثة :
أولاً   أن  ” يراقب الأزل بمطالعة عين السبق ” السبق بمعنى القديم ، لأن من صفات الله سبحانه وتعالى أن يكون قديماً و  أما غير الله فهو حادث و  العالم متغيّر ، وكل متغيّر حادث فالعالم حادث ، إذاً ما خلقه الله وأحدثه فهو أمر حادث و أما الله الذي خلق مثل هذه العوالم والحوادث فهو لا يكون حادثاً ،  الأزل و القديم هو الذي يولد الحوادث ، فإذا كان الله أيضاً حادثاً فهو كيف يخلق الموجودات والحوادث ؟
إذاً فالله هو  قديمٌ و سابقٌ وازليٌ و ابديٌ ، فإذا كان كذلك لا بد من أن يكون مراقبته أزلياً وأبدياً ويطالع ويفكر في مراقبته أنه أمام عين الله القديم السابق ، لماذا يطالع ويراقب مثل هذه المراقبة ؟ ” استقبالاً لعلم التوحيد” يعني اذا كان العبد في مراقبته أزلياً و يفكر تفكيراً أبدياً ويراقب القديم والسابق مراقبة أزلية عند ذلك هو يشرف و يستقبل علم التوحيد ، يعني متى يظهر هذا العلم ؟ عندما يكون دائم المطالعة و المراقبة . هذا هو الأمر الأول من هذه المراقبة ، ثم يقول مراقبة ثانية في هذه الدرجة الثالثة وهي ” مراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد” المقصود بالإشارات يعني الإفاضات ، الإفاضات التي تنزل من جانب الفيّاض و هو الله سبحانه وتعالى ، هذا العبد في مراقبته الأعلى  يجب أن يكون في مثل هذا الحال وهو أن تظهر هذه الإشارات الأزلية و الإفاضات الأبدية من الله سبحانه في قلبه ، في أحايين الأبد ، الأحايين جمع للحين ، الحين هو الوقت ، و العبد السالك طبعاً رغم يعيش أكثر من مئة سنة فهو يزاول أوقاتاً في عمره ، فهذه الأوقات التي تمضي من عمره بشرط أن يكون سالكاً وعارفاً في هذا الطريق ، أحايينه وأوقاته أوقات أبدية و ليست زائلة ، يعني الحياة الروحية و الحياة السلوكية حياة ليست مشروطة بهذا اليومين من الدنيا ، أنا أقدر أن أقول بأن السالك العارف حتى في هذه الدنيا ليس أن ينتظر أن يأتي الموت ثم بعد الموت ينتقل إلى حياة أبدية  لا لا ! حتى السالك في هذه الحياة الدنيوية حيث أن روحه روح أبدية وروح معنوية فهو يشعر بالحياة الأبدية ، وهذه من وراء هذا النوع من المراقبة ، لأن في مراقبته إفاضات و إشارات عرفانية من الله سبحانه و تعالى ، هذه الإشارات تجعله أن يسير بحياة معنوية أبدية وأزلية ، هذا بالنسبة للمراقبة الثانية في هذا النوع من المراقبة .
ثم يقول ” مراقبة الخلاص من ربطة المراقبة ” أولاً يجب أن نبيّن كيف هذه المراقبة تكون ربط في عنق السالك ، الربط يعني زنجير او حبل يكون في عنقه ، هذا هو الربط .
كيف تكون المراقبة بالنسبة للسالك ، يكون حبلاً مقيّداً في عنقه ؟
يجب أن نوضّح هذا الأمر ، إنه أمر غامض.
أقول عندما يبدأ السالك بالمراقبات الظاهرية بالنسبة لأحكام الشرع الإسلامي و المراقبات الباطنية فهذه كلها قيود ، يعني يتقيد أن يراقب أن لا يصدر منه ذنباً ولا غفلةً و لا خطأً ، حسناً هذه كلها قيود في نفسية السالك ، لكن عندما يجاهد مع نفسه و يعمل مثل هذه المراقبات ويتخلص من مراقبة الدرجة الأولى ثم يتخلص من مراقبة الدرجة الثانية ، ثم يدخل في مراقبة في الدرجة الثالثة كل هذه المراقبات يجعله في فضاء حر ، لماذا ؟ لأنه عندما يذيب نفسه في سبيل الله سبحانه ويكون دائم المراقبة و تحصل له ملكة في المراقبة و تمركز ، هذا التمركز الروحي يجعله في فضاء وسيع و حر ، بعد ما يحتاج إنه يلاحظ نفسه أنه في محضر الله سبحانه وتعالى ، لأن التوحيد و المعرفة الإلهية عندما تنكشف للعبد بعد كشفه للتوحيد الإلهي و المعرفة الإلهية لا يحتاج إلى مراقبة  ، لأن المراقبة كما قلنا في الأول ، المراقبة بين اثنين ، وهو قد تجرد من الاثنينية و تجرد و أخرج نفسه من الاثنينية ، من نفسه و الله ، فهو لا يرى إلا توحيداً ولا يرى إلا الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، فإذا كان في هذا النوع من الإيمان و الإخلاص و المعرفة والتوحيد ، إذاً يتخلص من رؤية المراقبة و تكون نفسيته نفسية خارجة من كل التعينات و من كل القيود ، فآخر درجة من درجات المراقبة أن تفني في المراقبة وان لا ترى نفسك مراقباً لله سبحانه ، بل ترى الله ميهمناً على نفسك ، فتتخلص من قيود  المراقبات ، إذاً هذه نوع عالي وراقي يجب أن نصل إلى هذه المرحلة .
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا لمثل هذه المراقبات العرفانية و التوحيدية والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته ، صلوا على محمد وآل محمد.

تمهید لتدریس منازل السائرین آیة الله محمدصالح الکمیلی الخراسانی

جدول المحتويات