29- منزل الوثوق

29- منزل الوثوق

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
اللهم وفقنا ووفق المشتغلين بالعلم والعمل الصالح
المنزل التاسع والعشرون من منازل كتاب منازل السائرين للمرحوم الشيخ عبد الله الانصاري
هذا الباب اسمه باب الثقة, وقد قلنا سابقا أن هذه الامور الأربعة (التوكل والتفويض والثقة أو الوثوق ثم التسليم) هذه أمور باطنية قلبية أربعة الواحد تلو الثاني. التفويض أقوى من التوكل, والتسليم أقوى من الوثوق. ولقد ذكرنا ما أوضحناه في باب التوكل وباب التفويض. بقي باب الثقة وباب التسليم.
أما الثقة فقد اورد الانصاري آية من القرآن في بدء البحث وهذه الآية تختص بقصة ولادة النبي العظيم من أنبياء أولي العزم وهو كليم الله موسى ابن عمران. قال الله سبحانه في سورة القصص آية (7) قال الله عز وجل:(فإذا خفتِ عليه فألقيه في اليم).
اليم هو بحر النيل في مصر. أم موسى (ع) حبلت بموسى ولكن الله أخفى حملها, وأولدت موسى ثم جاء الأمر من الله ان تلقي ابنها موسى في اليم, ووضعت موسى في صندوق والقت الصندوق في يم مصر حتى إذا وصل هذا الصندوق الى قصر فرعون والقصة تعلمونها وهي مطولة الشاهد في هذه الآية الكريمة أن أم موسى وثقت بأمر الله سبحانه, والقت ولدها في البحر في اليم نيل مصر. عندما خافت من العدو وهو فرعون حيث اخبره المنجمون بأن هلاكه على يد موسى
فالمناسبة بين هذه الآية وبين منزل الوثوق هو أنها وثقت في الله سبحانه وألقت ولدها في البحر. ثم يقول الشيخ الانصاري: (الثقة سواد عين التوكل, ونقطة دائرة التفويض, وسويداء قلب التسليم).
بمعنى أن الوثوق أمر يشمل منزل التوكل ومنزل التفويض ومنزل التسليم. أيها السالك إذا وثقت بأمر الله فإنك قد حصلت على توكل(سواد عين التوكل) الانسان له عينان وفي العين سواد. يمثل الانصاري بسواد العين مهجة العين        ويمثل الوثوق القلبي بالله بسواد عين التوكل. ثم يقول أيضا له (أي للوثوق) أيضا ما يشمل التفويض يعني إذا اعتبرنا التفويض كدائرة وهذه الدائرة لها مركزية نقطة مركزية فان الوثوق هو عبارة عن هذه المركزية لدائرة التفويض.
ثم يقول أيضا الوثوق يشمل سهم من التسليم وهذا الذي يشمله هو عبارة عن سويداء القلب. وطبعا السويداء هو المركزية في قلب الانسان فحظ الوثوق من التسليم هو أن يكون بمنزلة سويداء القلب. إذن الوثوق ليس بأمر هين بل عند العرفاء هذا الوثوق من الدرجات والمقامات العالية في العرفان. ثم يقول وهي (أي الثقة) على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: درجة الأياس
وهو أياس العبد من مقاواة الأحكام ليقعد عن منازلة الأقسام وللتخلص من وقحة الإقدام.
الشيخ الانصاري يقسم الوثوق بالله في ثلاث مراتب.
المرتبة الاولى أن يحصل السالك الى الله بسبب الوثوق يحصل في نفسه أياس ويأس من غير الله سبحانه, ويكون في نفسه الاعتماد والوثوق والرجاء بالله سبحانه. هذا هو القسم الاول من أقسام الوثوق وله تحليل ووضوح سنتعرض إليه.
أما الدرجة الثانية: وهي عبارة عن درجة الأمن
بمعنى أن السالك بعدها حصل على اليأس يحصل على الأمن يعني يكون العبد السالك في مقام أمن من الاخطار وما ينافي الوثوق.
وأما المرحلة الثالثة التي هي أعلى المراتب فهو أن السالك في هذه المرحلة يعاين بقلبه أولية أو أزلية الحق سبحانه.
نرجع ونبين موضوع الأياس من غير الله.
يقول الشيخ هو أياس العبد من مقاومة أو مقاواة الأحكام أو الإحكام. بمعنى أن العبد السالك عندما يرى قضاء الله وحكمه في أموره لا يقابل ذلك بأي حركة تتنافى مع الوثوق, وييأس من المقابلة لأحكام الله وقضاءه وقدره فيما يحصل له من حوادث واتفاقات في معيشته وما يتعامل في هذه الحياة الدنيوية ليقعد عن منازعة الاقسام, الاقسام جمع قسم يعني ما قسمه الله له من تدابير وتقديرات في أموره الفردية والعائلية والمعيشية والاجتماعية والسياسية وما هناك من أمور تختص بهذا العبد السالك فهو بسبب هذا الوثوق والأياس يقعد عن أن يتنازع مع ما قدر له  وقسم من الله سبحانه حيث يملك في نفسه وثوق بالله سبحانه ويرى أن الله هو أرحم الراحمين لا يقّدر له الا ما كان هو خيرا له.                             ثم يقول: يتخلص من وقحة الإقدام. الوقاحة والوقح بمعنى بمن يتجرأ على الله سبحانه وتعالى بذنوبه ومخالفاته.                       يكون وقح يتجرأ ويعصي إلا أن الواثق بالله سبحانه لا يكون في نفسه هذه الوقاحة بحيث يقدم ويقابل ما قدر له بل يصبر على ذلك, ويكون هذا العبد السالك كثير الحياء. الوقح من يكون عديم الحياء, إلا أن الواثق بالله هو يحمل حياء في نفسه ولا يقدم على شيء يخالف توكله أو اعتماده أو وثوقه بالله سبحانه هذا بالنسبة للدرجة الاولى.

وأما الدرجة الثانية فهي أعلى درجة من الاولى حيث يملك في نفسه أمن وأمان من كل المحذورات.                     يقول هو أمن العبد من فوت المقدور, وانتقاص المسطور. المقدور ما قدر من الله, والمسطور ما كان مسطورا في اللوح المحفوظ وفي علمه سبحانه. فان الواثق بالله هو في مقام الأمن لا يضطرب بل هو في وثوق وأمن من فوت المقدور يعني المقدور في علم الله لا يفوته وأيضا المسطور في علم الله من حوادث وأمور تتناوله ولا يكون منقوص بمعنى أن العبد السالك هو لا يرى نقص فيما قدر الله له وسطر الله له بل هو راض ومسلم أمره اليه سبحانه.
ويقول أن الله هو أعلم بما يفعل هو أرأف مني بنفسي هو أرحم مني من والدي ومن أي شخص له عطوفة ورأفة ورحمة.  فاذا كان بهذه المثابة إذن فما قدر لي أو ما سطر لي لا يكون منقوص أو ضرر بل هو ما يكون فيه المصلحة والحكمة الالهية اذن فيظفر بروح الرضا والا فبغنى اليقين والا بظلف الصبر.
إذا كان السالك في مقام أمن من المحذورات وفي مقام الوثوق به سبحانه من أن يكون المقدور أو المسطور أمر لابد من فوته أو يكون منقوص لا يرى ذلك في نفسه بهذه المثابة انما يرى المسطور والمقدور هو المحبوب عند الله الحبيب فإذن لابد من أن يكون واثق منه سبحانه. اذن يظفر بروح الرضا اذا كان قلبه مع الله واذا كان معتمدا عليه فيما يحصل له من حوادث ومن مقدرات يرى نفسه واثق ومسلم له سبحانه عندها يظفر بروح الرضا يعني يكون راضيا بما كتبه الله له واذا لم يكن في مقام الرضا فإذن هو في مقام اليقين يعني هو يتيقن بأن ما قدر له وما قسم له فهو خيرا له اذن هو يستغني باليقين. اليقين بالله وبأمره, إن لم يكن مرتبة الرضا ولم يكن في مرتبة اليقين فلابد ان يكون في مرتبة الصبر      يعني يكون صابرا بما قدر له حتى له كان المقدر بلاء وفتنة ومشقات ومصائب كل ذلك يقضي أن يكون صابرا, وفي نسخة بلطف الصبر يعني الصبر صفة ممدوحة وهو بعد الرضا واليقين يكون صابرا. وهذا الصبر هو ظفر أو لطف منه سبحانه بالنسبة لهذا العبد السالك هذا ما اوضحناه في الدرجة الثانية من درجات الوثوق.
أما الدرجة الاخيرة والثالثة: فهي أن يكون العبد السالك في وثوقه واعتماده عليه سبحانه ان يعاين أزلية الحق فيما يحدث من بلاء أو نعمة من رخاء أو شدة. يعاين في قلبه أولية الحق في كل أمر يراه في هذه الدنيا وفي نسخة أزلية الحق يعني يرى ويعاين يد الحق سبحانه اليد الاول والسبب الأول فيما يواجهه ان كان بلاء او كان رخاء. وطبعا هذه المرحلة هي أقوى من مرحلة الامن والأياس ولذلك يقول يتخلص من محن القصود وفي نسخة من سجن القصود وتكاليف الحمايات والتعريج على مدارج الوسائل. اذا كان العبد السالك واثق بالله سبحانه معتمدا عليه ولا يرى للأسباب في هذه الدنيا العابرة لا يرى لها أي قيمة وأي تأثير اذا لم تكن هذه الاسباب برضا الله سبحانه وبمشيئته وبتقديره وحكمه وقضاءه هو يعتبر هذه الاسباب أو ما يظهر من امور تختص به لا يراها الا بسبب أولية الحق. يعني هو موحد يحمل في نفسه توحيد واعتماد ووثوق بأنه لا مؤثر في الوجود الا الله عند ذلك يعتمد عليه سبحانه عند ذلك يتخلص من محن القصود وقد مر عليك انه في مسألة التفويض (قال ان السالك في الدرجة الاولى) قال أن السالك لا يعول على نية يعني لا يعتمد على قصده ونيته لا يرى ذلك أثرا فيما يتفق أو يظهر له. ما قيمة قصد العبد مقابل فعل الله سبحانه ولهذا الامام علي عليه السلام يقول: عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم.
انت ايها السالك لو نويت الف نية لو اهتممت بألف همة وقصدت ونويت واقدمت على امر اذا لم يكن فيه مشيئة من الله وقضاء وقدر منه سبحانه فلا اثر لقصدك ونيتك لهذا يقول في المرحلة الثالثة من مراحل الوثوق انت تتخلص من محنة النية يعني تعتمد على الله سبحانه و لا تعتمد على نيتك وإذن تتخلص من تكاليف الحمايات يعني انت لا تفعل مثلما يفعل غير الواثق بالله سبحانه والذي يعتمد على الاسباب الظاهرية والدنيوية والمادية ويحتمي بحماها يحتمي بالأسباب الظاهرية مقابل قوة الله وقدرته ومشيئته. انت عندما تكون واثق وتعاين يد الله في الامور عند ذلك تتخلص من محنة القصد ومن تكليف أي  حماية من الحمايات التي تتصورها. ثم يقول وايضا التعريج على مدارج  الوسائل يعني الواثق بالله لا يعرج من هنا وهناك على الوسائل والاسباب الظاهرية. انما يعتمد بقلبه وروحه وبجميع قواه على القوي العليم الحكيم العزيز وهو الله سبحانه.
نسأله ان يجعلنا من الواثقين من المتوكلين من المفوضين من المسلمين لما يفعل بنا فهو الفاعل لما يشاء.                                  اللهم افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا نحن أهله.
والسلام عليكم ايها الاخوة ورحمة الله وبركاته.

تمهید لتدریس منازل السائرین آیة الله محمدصالح الکمیلی الخراسانی

جدول المحتويات