35- منزل الصدق
المنزل الخامس والثلاثين
(الصدق)
الحمد الله رب العالمين وصلى الله على محمد وآل محمد
اللهم وفقنا ووفق المشتغلين بالعلم والعمل الصالح
قال الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم ((فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم )) صدق الله العلي العظيم / سورة محمد الآية (21)
الصدق : اسم لحقيقة الشيء بعينه حصولا ووجودا.
وهو على ثلاث درجات :
ـ الدرجة الأولى: صدق القصد وبه يصح الدخول في هذا الشأن، ويتلاف به كل تفريط ويتدارك به كل فائت ويعمر به كل خراب. وعلامة هذا الصادق أن لا يحتمل داعية تدعو الى نقض عهد ولا يصبر على صحبة ضد ولا يقعد عن الجد بحال.
ـ الدرجة الثانية: أن لا يتمنى الحياة الا للحق ولا يشهد من نفسه الا أثر النقصان ولا يلتفت الى ترفيه الرخص.
ـ الدرجة الثالثة: الصدق في معرفة الصدق، فإن الصدق لا يستقيم في علم الخصوص الا على حرف واحد، وهو أن يتفق رضا الحق بعمل العبد أو حاله أو وقته وإتيان العبد وقصده. فيكون العبد راضيا مرضيا.
إذا أعماله مرضية وأحواله صادقة وقصوده مستقيمة، وإن كان العبد كسي ثوبا معارا فأحسن أعماله ذنب، وأصدق أحواله زور، وأصفا قصوده قعود.
هذا هو النص الذي ذكرناه من كلام الشيخ الانصاري رضوان الله عليه حول موضوع الصدق.
استشهد بآية قرآنية، حيث أنه سبحانه قال ((فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ))، إذا الصدق هو الخير وليس فيه أي تعلق بالشرور، فإذا عزمت أمر الله فعليك أن تكون صادقا فيما حصل العهد بينك وبين الله سبحانه.
فلو كان السالك صادقا عليه أن يعرف مراتب الصدق ، فليس الصدق مرتبة واحدة وإنما هو مراتب من أدنى الى أعلى.
أما تعريف الصدق فيقول: اسم لحقيقة الشيء بعينه حصولا ووجودا.
بمعنى أن يكون صدق الصادق أمرا مطابقا للواقع، فلو كان مخالفا للواقع فهو كذب وليس بصدق، إذا فلابد أن يكون الصدق اسما لحقيقة الشيء بعينه، بمعنى أنه مثلا أخبر الصادق بخبر فهذا الخبر لابد أن تكون له حقيقة حصولا ووجودا.
يعني أن يحصل ما أخبره المخبر وأن يحصل ذلك الحادث وأيضا أن يتحقق و أن يكون الأمر واضحا وواقعا، مثلا يأتي شخص ويخبر أن في الميدان الفلاني والشارع الفلاني حدث حادث على سبيل المثال اثنين صار بينهم اصطدام وحصل حادث أو أي حادث، فهذا الحادث لابد أن يحصل وأن يكون له وجود في الخارج لابد أن يكون له تحقق، فلو أخبر المخبر يجب أن يكون صادقا اذا اخبر بأن الحادث الفلاني في الشارع الفلاني في الميدان الفلاني وقع مثل هذا الحادث فلابد أن يتحقق، وإلا يكون الأمر دجلا وكذبا وزورا.
هذا هو معنى الصدق، وهو على ثلاث درجات :
الصدق القصدي: وبه يصح الدخول في هذا الشأن.
أول درجة أن يكون السالك له نية صحيحة، إذا لم يكن له نية فكيف يدخل في شأن الصادقين، فلابد أن يكون قصده ونيته صادقا مع ما يخبر ويقول ويفعل، فإذا كان الأصل والأساس وهو النية والقصد صادقا، إذا يصح له أن يدخل في هذا الشأن يعني شأن الصادقين.
ويتلافى به كل تفريط ويتدارك به كل فائت ويعمر به كل خراب.
يعني أنت بصدقك فيما تقول وتفعل لابد من أن تتدارك ما كنت قبل هذا المقام مفرط أو كنت مفوت أو كنت مخربا. اذا بصدقك ورجوعك الى الحق يتلافى كل تفريط منك وبإمكانك أن تتدارك كل فائت منك، وأيضا بإمكانك أن تعمر كل ما خربت قبل الصدق.
هذا هو شأن الصدق والصادقين…..
قال الله سبحانه : (( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقول ما لا تفعلون)) سورة الصف/ الآية 2و3
وعلامة هذا الصادق : أن لا يحتمل داعية تدعو الى نقض عهد، ولا يصبر على صحبة ضد ولا يقعد عن الجد. الذي يسير في خط الصدق والذي يتصادق مع الصادقين والذي يثبت في نفسه مقام الصدق لابد أن لا يسمع الى داعية يدعو الى ضد الصدق، فمن يدعو الى نقض العهود لابد أن لا يتوجه إليه ولا يسمع كلامه ولا ينقض العهود.
وهكذا على الصادق أن لا يصاحب شخصا هو ضد الصدق هو من الكاذبين، هو ممن يتحيل ومن أهل الدجل والجدل فيما يقول ويفعل عليه أن يترك صداقة وصحبة مثل هؤلاء الاشخاص.
إذا لا يصبر على صحبة ضد، والذي يراد بالضد هو الذي يعارضك فيما تفعل من صدق، خصوصا في الأمور السياسية.
يقال أن السياسة ليس لها لا أم ولا أب، السياسة المتحيلة سياسة كذب ودجل، هذه سياسة أمريكية غير أسلامية وغير صادقة، حيث تتحول من حال الى حال، ليس لها أي مباني صادقة وصحيحة.
أذا فالأنسان المجاهد المقاوم المسلم هو يتبرأ من مثل هذه السياسة، فهو لا يصبر على أن يرافق ويصاحب الأشخاص الذين هم ضد الصدق، ولا يقعد عن الجد في الصدق بحال من الأحوال، يعني هو دائم يجد ويجتهد الى أن تكون أفعاله كلها مطابقة للواقع صادقة غير كاذبة.
يجد ويجتهد أن يكون عضوا فعالا صادقا في المجتمع، أن تكون سياسته سياسة واضحة صادقة أسلامية مائة بالمئة.
هذا بالنسبة الى الدرجة الأولى
أما بالنسبة الى الدرجة الثانية من درجات الصدق: أن لا يتمنى الحياة إلا للحق، يعني الصادق لا يتنفس في هذه الحياة إلا أن تكون أنفاسه وحركاته وسكناته كلها صدق وحق وحقيقة، ولا شهد من نفسه إلا أثر النقصان، يعني دائما هذا السالك في سبيل الله الذي يريد أن يصدق فيما يفعل و دائما يرى في نفسه النقصان، لأنه ينظر الى ما فوقه من صادقين هم في أعلى درجات الصدق.
ليس فقط صادق بل هو صديق، الصديقون هم أكبر من الصادقين، الصديق على وزن فعيل، يعني المبالغ والمكاثر في صدقه، دائما يترجى الصدق يتوخى الصدق ويؤاخي الصادقين ويزيد من صدقه درجة فوق درجة.
لا يتمنى الحياة في الدنيا إلا للحق والصدق ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان، يعني يريد أن يتكامل يوما بعد يوم في درجات الصدق ولا يلتفت الى ترفيه الرخص، يعني لا ينظر الى المباحات والترخيصات والواردة في الشريعة الأسلامية .
تعرف أن الأحكام خمس: الواجب والحرام والمستحب والمكروه والمباح، المؤمن الصادق ليس في أعماله مباح، يعني يحول أفعاله الى المستحبات ولا يتقرب الى المكروهات والمحرمات أبدا.
وهذا دليل صدقه ودليل صدق إيمانه، أن يكون دائما فيما يرضي الله سبحانه، إذا يبتعد عن الرخص والمباحات، إذا أراد أن يفعل فعلا مباحا ينوي التقرب الى الله، ليتحول المباح الى عمل مستحب. هذا بالنسبة الى الدرجة الثانية.
أما الدرجة الثالثة: الصدق في معرفة الصدق، يعني هو يحرص أن يكون صادقا لكي يعرف الصدق على درجاته، لأن الصدق لا يستقيم في علم الخصوص إلا على حرف واحد، المراد بعلم الخصوص هو علم العرفان.
حيث السالك يسلك طرق العرفان بهذا العلم الالهي والخاص الذي يتخصص به الصادقون هو يمشي ويسلك حرفا واحدا ، ما هو هذا المنهج أو المبنى الذي يقال عنه هو حرف واحد، ما هو؟
يقول : هو أن يتفق رضا الحق بعمل العبد، هو يريد أن يكون صادقا بمعنى أنه يريد أن يجعل رضا الحق سبحانه في أعماله وأحواله وأوقاته وقصده ونيته وما يفعله في هذه الحياة .
هذا أول الحرف الواحد، الذي دائما هو قد جعله في أفكاره وأمام عينه بحيث أن يكون جميع أحواله مطابقا لرضا الحق، وهذا هو الصدق.
فيكون العبد راضيا مرضيا، فأعماله إذا مرضية وأحواله صادقة وقصوده مستقيمة، مثل هذا الشخص الذي يكد ويجتهد في أن تكون جميع حركاته وأحواله وأوقاته وأطواره وأفعاله كلها مطابقة لرضا الله سبحانه.
إذا فهو يكون راضيا مرضيا .
وإن كان العبد كسي ثوبا معارا. يعني مثل هذا العبد في هذه الدنيا يجعل نفسه نفس مستعارة لأنه يرى نفسه ميتا وفانيا في الله سبحانه، فهو إذا غير متعلق في الدنيا ولا يرى حاله باقية في هذه الدنيا وحياته تدوم وتستمر.
لا بل هو في حالة فناء بالله وأحسن أعماله ذنب وأصدق أحواله زور واقصد قصوده قعود.
لدينا مؤيدات لهذا المعنى من الصدق :
المؤيد الأول: حسنات الأبرار سيئات المقربين . لماذا تتحول حسنات الأبرار في نظر المقربين لله الى سيئات؟
صلاة الأبرار وصلاة المقربين، المقرب عند الله عند تمام صلاته يستغفر الله من صلاته ويرى صلاته ذنبا .
فقد ورد في الحديث : إذا أردت أن تعرف فيك خيرا فانظر في قلبك، فإن كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصية الله، ففيك خير والله يحبك، إن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصية الله ففيك شر والله يبغضك والمرء مع من أحب.
وأيضا ورد في الحديث القدسي: يا داوود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني وجليس لمن جالسني .
مثل هذه الأحاديث تثبت أن الصادق بأعلى درجة من صدقه يرى نفسه في نقصان ويقول: يا ربي أن ما فعلت شيئا ياربي أنا مقصر، أين أنت وأين أنا؟
وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
فأحسن أعماله ذنب، كيف يحدث
في الدرجة الثالثة أن يرى الصادق أعماله من صلاة أو صوم أو أي عمل عبادي مقرب لله، يرى ذلك ذنب يستغفر ربه منه.
هذا إنما يحصل عندما يرى صلاة الكروبيين صلاة من هو أقرب منه لله سبحانه، فيرى عمله كيف ما كان ، ويرى ذلك العمل ذنبا، يرى تقصيرا لما فعله.
ويرى أصدق أحواله زور، ويرى أصدق أحواله في الله زورا وكذبا، ويرى ايضا اصفا قصوده وأصفا نياته.
فالنية الصافية الخالصة لله يراها قعودا عن الجهاد الأكبر حيث يقول سبحانه: فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما، يرى نفسه متقاعدا متكاسلا.
أين هو وأين المجاهدين في الله سبحانه؟
لا يقصد من الجهاد الجهاد الأصغر، إنما الجهاد الأكبر.
اذا عندما يقايس نفسه مع المجاهدين المتعالين في الجهاد الأكبر، يرى نفسه نفس متقاعدة، ليست هذه النفس بمنزلة النفوس الكبيرة الصادقة العالية المجاهدة، لا يراها مثل ذلك ، إذا قعود وقعود ذنب وذنب زور وزور.
إذا لم يفعل مع نفسه مثل هذه التدبيرات، فإنه لا يرتفع في الجهاد مع النفس، متى يرتفع الإنسان؟ إذا لم يختصر على ما أعطاه الله سبحانه وتعالى، ويقايس نفسه مع الصادقين.
كبار من العارفين بالله سبحانه عند ذلك يقول: يا ربي أين أنا وأين هؤلاء؟
فإذا هو دائما في حالة المنيب الكاذب القاعد، لكي يرتفع، يفعل كل ذلك لأجل أن يرتفع، لكي يرتقي أكثر مما كان عليه في الماضي.
بهذا نختم الكلام ….وصلى الله على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين .